تغير معادلة سوق العمل الفرنسي.. كبار السن قوة تنافسية

في ظل تزايد النقص في الأيدي العاملة وتنامي الحاجة إلى الكفاءات المتمرسة، بدأت العديد من الشركات الفرنسية في تعديل سياساتها التوظيفية، مُعلنة انفتاحها على توظيف من تجاوزوا سن 45 بل وحتى 60 عامًا.
كبار السن، الذين كانوا إلى وقت قريب ضحايا تهميش وظيفي، باتوا اليوم يُنظر إليهم على أنهم كنوز بشرية تجمع بين الخبرة، والموثوقية، والقدرة على التأقلم.
وجاءت هذه الديناميكية الجديدة مدعومة بقوة تشريعية. ففي 4 يونيو/حزيران الماضي، صادق مجلس الشيوخ الفرنسي على قانون جديد يُعزز توظيف من هم فوق 57 عامًا، عبر آلية "عقد تثمين الخبرة" الذي يُلزم الشركات الكبرى بإجراء مفاوضات دورية حول توظيف كبار السن، بحسب إذاعة "20 مينيت" الفرنسية.
ويأتي ذلك في وقت تواصل فيه عدة قطاعات، مثل التجارة، والمحاسبة، والمساعدة الشخصية، تكثيف عمليات التوظيف للفئات العمرية الأكبر سنًا، مدفوعة بقناعة متزايدة بأن الخبرة ليست عبئًا بل رافعة أداء واستقرار.
المحاسبة والإدارة.. الدقة والخبرة رأس المال الحقيقي
في مجال المحاسبة، لا تزال الخبرة تُعد من الأصول النادرة. الدقة، والسرية، والقدرة على العمل باستقلالية، هي صفات تُميز المحاسبين من كبار السن، وتجعلهم شركاء مثاليين في بيئات العمل التي تتطلب الانضباط والموثوقية.
ووفقًا لدراسة حديثة من APEC، فإن 60% من الشركات المتوسطة والكبيرة وضعت آليات للحفاظ على الوظائف ونقل المهارات. شركات كبرى مثل Safran، Schneider Electric، وAXA طبّقت برامج دمج حقيقية لهذه الكفاءات.
وفي المقابل، تعتمد شركات أصغر مثل Hygie Conseils على شراكات مع France Travail لتوظيف محاسبين متمرسين قادرين على الاندماج بسرعة وتعزيز الفرق.
المساعدة الشخصية.. النضج يعادل القيمة
مع تقدم المجتمع الفرنسي في السن، تزداد الحاجة إلى خدمات المساعدة الشخصية، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام توظيف كبار السن. ووفقًا لإحصائيات Dares 2024–2025، فإن حوالي ثلث العاملين في هذا القطاع تجاوزوا سن الـ55، مقابل 18٪ فقط في بقية القطاعات.
شركات مثل AXEO Services، Age d’Or Services، وSenior Compagnie تضع النضج والخبرة في قلب استراتيجيتها التوظيفية. في هذه البيئة، لا تُعد الخبرة سطرًا على السيرة الذاتية فحسب، بل تُترجم مباشرة إلى رعاية إنسانية حقيقية للمستفيدين.
التجارة والتوزيع.. الثقة تبدأ من الأرضية
أظهرت بيانات Dares أن معدل توظيف الفئة العمرية بين 55 و64 عامًا ارتفع بمقدار 7.7 نقاط بين 2014 و2021، ويواصل نموه في قطاع التجارة عام 2025.
شركات مثل Carrefour، Intermarché، وE.Leclerc توظف كبار السن في مناصب إشرافية، أو كرؤساء أقسام، أو حتى مديرين، مستفيدة من خبراتهم في خدمة الزبائن، إدارة العمليات، ونقل المهارات إلى الشباب. في قطاع يُعرف بارتفاع معدلات الدوران الوظيفي، يُمثل الاستقرار الذي يوفره كبار السن ميزة تنافسية.
الفنادق والمطاعم.. الخبرة لمواجهة النقص في العمالة
يعيش قطاع الضيافة أزمة عمالة مزمنة، ما دفع عددًا من الفاعلين إلى اللجوء إلى الكفاءات المخضرمة. فشركات مثل DomusVi، Sodexo، وKorian توفر فرص عمل منتظمة لكبار السن، خصوصًا في أدوار إشرافية أو تنظيمية.
وتبرز هذه الشركات المزايا التي تقدمها هذه الفئة: إدارة فعالة، تواصل ممتاز مع الزبائن، وقدرة على نقل المعرفة إلى الأجيال الصاعدة.
الاستشارات والتدريب: من الخبرة إلى القيادة
أصبحت الشركات تدرك قيمة تحويل الخبرة إلى مورد تدريبي، فحسب APEC، أكثر من نصف الشركات الفرنسية وضعت خططًا لتفعيل التوجيه المهني والتدريب الداخلي عبر كبار السن.
شركات مثل Assystem وXpertZon بنت نماذج أعمال ترتكز بالكامل على هذه الكفاءات، موفرة لهم أدوارًا استشارية وتدريبية. وهكذا، تتحول نهاية المسار المهني إلى مرحلة جديدة من التأثير والإرشاد.
قطاعات حيوية.. البناء والنقل يحتضنان الكبار
في مجالات مثل البناء والنقل الحضري، تحوّلت الحاجة إلى يد عاملة خبيرة إلى ضرورة استراتيجية. شركتا NGE وKeolis كانتا من أولى المؤسسات التي حصلت على علامة "Emploi 45+"، تقديرًا لجهودهما في إدماج كبار السن. في Keolis، أكثر من نصف الموظفين تجاوزوا الـ45 عامًا مع نهاية 2023، وتُعتبر هذه الفئة ركيزة في أدوار القيادة والدمج الوظيفي.
شركات كبرى تحوّل الخبرة إلى استراتيجية مستدامة
تعتمد شركات فرنسية كبيرة مثل SNCF، EDF، Enedis، وElior على توظيف الكفاءات فوق 57 عامًا. في SNCF، يُستخدم "عقد كبار السن" لتوظيفهم في مناصب مثل المراقبين أو موظفي الاستقبال.
في EDF، تم إلغاء الحد العمري للتوظيف تمامًا، في خطوة تعكس قناعة جديدة: الخبرة لا تتقادم، بل تتجدد.
سوق العمل يعيد الاعتبار للسن والخبرة
في زمن يعيد فيه الاقتصاد الفرنسي ترتيب أولوياته، يظهر كبار السن كقوة عاملة موثوقة ومطلوبة. من المحاسبة إلى الخدمات، ومن التعليم إلى التوزيع، لم تعد الخبرة عائقًا بل مفتاحًا لمستقبل أكثر استقرارًا وإنسانية.