مراجعة أسس ومرتكزات العلاقات العربية السورية ترتبط بمنهاج عمل حقيقي يضع الأولويات الأمنية والسياسية على أي اعتبارات أخرى
تتباين الرؤى والتصورات العربية في التعامل مع النظام السوري ما بين التأكيد على ضرورة استعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية والعمل على افتتاح السفارات العربية من جديد في سوريا، والتمهل في قرار التعامل الرسمي مع النظام السوري والانتظار إلى ما يمكن أن تقدم عليه الدولة السورية في الفترة المقبلة، وتلبية المتطلبات العربية قبل بدء التطبيع العربي مع سوريا مرة أخرى.
من سوريا ستبدأ التفاهمات وتقدير الحسابات والسياسات للقوى المختلفة، ومن ثم فإن التعجيل بعودة العلاقات العربية السورية ستكون مدخلاً حقيقياً ومهماً لمواجهة بعض ما يجري والوقوف في مواجهة بعض المخططات التي تحاك بالمنطقة ودولهاأولا: يكشف التباين الراهن بين الموقفين المؤيد والمعارض تجاه سوريا عن عدم وجود موقف عربي موحد، وأن هذا الأمر سيستمر بعض الوقت لحين متابعة الدولة السورية لاستحقاقاتها السياسية، وهي بالأساس ليست مقصورة على فتح السفارات فقط، وإنما المضي قدماً في تبني موقف عربي موحد من داخل الجامعة العربية تجاه التعامل مع الواقع الراهن في سوريا بعد أن تمكن النظام السوري من استعادة أراضيه، ونجح في الانطلاق إلى ما بعد سوريا المفيدة إلى سوريا التاريخية، ومن ثم فإن الأمر بات مرتبطاً بقدرات وإمكانيات النظام السوري، وهو ما سمح بعودة بعض اللاجئين رغم الصعوبات والإشكاليات الحقيقية التي لن تتوقف عند مراحل ما بعد العودة في الوقت الذي لا تزال الحرب مستمرة، والمواجهة قائمة بصرف النظر عما يجري في الشمال السوري، أو التخوف من سيناريوهات جديدة قد تطرح نفسها في الفترة المقبلة، وفي ظل مساعي النظام لإعادة تموضعه بالكامل في كل ربوع سوريا الكبرى استقواء بما هو جارٍ سياسياً وميدانياً، واعتماداً على الوجود الروسي ودعم قوات الحرس الثوري وقوات حزب الله، والتركيز على حجم الإنجاز الذي تم خلال الأشهر الأخيرة في مواجهة الفصائل المسلحة، وعناصر دولة الخلافة داعش، والتي يحاول النظام التعامل مع بقيتهم انطلاقاً من قدرات ودعم روسي إيراني لافت مستمر.
ثانيا: تبقى دول الجوار الإقليمي هي الأهم بالنسبة لمجال الحركة السورية وما ينطبق على الأردن والعراق لا ينطبق على السودان وموريتانيا، وهما من الدول التي تسعى لتطوير علاقاتهما بالنظام السوري بصورة لافتة، وهناك ترتيبات لزيارة رئيس موريتانيا إلى دمشق بعد زيارة الرئيس عمر البشير، والتي أعقبها انفتاح عربي وفتح سفارات عربية تباعاً، وهو ما سيكون مرشحاً بقوة في الفترة المقبلة، كما عقدت لقاءات مصرية سورية أمنية، كذلك فتح معبر نصيب/جابر على طول الحدود السورية الأردنية وزيارة وفد برلماني أردني ولقائه الرئيس بشار الأسد، ولن يتوقف على إعادة خطوط الطيران العربية كما في الحالة التونسية، وهو ما سيتنامى في الفترة المقبلة، وسيؤدي إلى توجه عربي سياسة وأمناً إلى سوريا، ولمزيد من التواصل العربي مع سوريا على تبني إجراءات عربية جديدة تجاه سوريا.
والرسالة هنا أن الموقف العربي رغم تباينه إزاء سوريا إلا أنه يتفق في ضرورة تغيير التعامل الجديد مع النظام السوري الذي يجري تعويمه في نطاق عربي واضح، ومن ثم فإن الإشكالية الحقيقية التي تواجه العودة السورية إلى العالم العربي ليست فقط متعلقة بعودة السفراء أو فتح السفارات فقط، وإنما بكيفية التعامل مع النظام السوري، ومع مؤسسات الدولة السورية، وهو أمر سيرتبط بالرأي العام السوري وكيفية تقبله وإعادة بناء الدولة من جديد وبدء مشروع إعادة الإعمار الذي يجب أن ينطلق من حسابات وتقييمات عربية، وليس صراعاً على الموارد السورية الكبيرة وحاجة الدولة إلى المليارات لبدء مشروع الإعمار ومشاركة الدول العربية، وعلى رأسها الأردن ومصر، ومن ثم فإن بناء مساحة جديدة من العلاقات السورية العربية سيتطلب إعادة ترتيب الحسابات العربية في محتواها بصرف النظر عما يحدث في أروقة الجامعة العربية، والتي ستربط حدث إعادة سوريا إلى نطاقها العربي العربي بمواقف عربية، سواء كانت المؤيدة أو المتحفظة على التعامل مع النظام السوري الراهن.
ثالثا: قد ترتبط مراجعة أسس ومرتكزات العلاقات العربية السورية بمنهاج عمل حقيقي يضع الأولويات الأمنية والسياسية على أي اعتبارات أخرى متعلقة بمناخ العلاقات العربية الأمريكية الراهنة، والتي عبر عنها وزير الخارجية مايك بومبيو في جولته العربية في الوقت الراهن، إذ من المتوقع أن تكون الأفكار الأمريكية التي تم طرحها في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من سوريا، أو الخروج من مراكز التجمع الأمريكي قد تم تفنيدها عربياً، وعلى مستويات فردية على حسب توجهات ومواقف كل دولة وعلى المستوى الجماعي العربي، في إطار ما تدعو إليه الإدارة الأمريكية من ملئ الفراغ السياسي والاستراتيجي في مناطق الخروج، وهو الأمر الذي يتطلب بالفعل موقفاً عربياً سواء بالتجاوب مع الأفكار الأمريكية، والتي تركز على ضرورة إرسال قوة عربية، وهو أمر يحتاج إلى تناول عربي على مستوى كبير في ظل مهام ودور ومسؤوليات هذه القوات إن تم إرسالها، وما إن كان القرار سيصدر من الجامعة العربية أو من الأمم المتحدة في ظل تعدد الصراعات على الأرض، وهو ما تتفهم أبعاده جيداً الحكومة السورية، وفي ظل متطلبات إقليمية للأردن وإسرائيل وتركيا، وهو الأمر الذي سيفرض نفسه في الفترة المقبلة، خاصة أن النظام السوري لديه الرؤية التي تتباين مع كافة الرؤى والاستراتيجيات المطروحة عربياً وإقليمياً.
ومن المؤكد أن إسرائيل تحديداً سيكون لها كلمتها في الجنوب السوري، كما ستستمر في توجيه الضربات على مواقع حزب الله وقوات الحرس الثوري دورياً رغم امتلاك النظام السوري منظومة اس300 القادرة على الرد، كما ستستمر القوات الروسية في دعم التحركات السورية، وستظل قوات حزب الله وقوات الحرس الثوري بالقرب من الحدود في الجنوب، كما ستبقى المصالح الأردنية رهن أية تطورات، خاصة أن الأردن من الدول المتضررة من بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وتريد إنهاء أزمة اللاجئين على أراضيها وبصورة عاجلة، خاصة في ظل أزمتها الراهنة والضغط على مواردها الاقتصادية، ومن ثم فإن تشغيل المعبر الحدودي وتفعيل دوره بهدف تحقيق مكاسب اقتصادية حقيقية ممتدة، وهو ما تراهن عليه دول أخرى مثل العراق وإيران، وتبقى تركيا في مرمى التطورات الراهنة، خاصة مع حرصها على تحقيق كل مصالحها دفعة واحدة، والعمل على بناء شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة ربما انطلاقاً من تعاملاتها في الملف الكردي ومروراً بإعادة الحسابات الاستراتيجية في تفاصيل الملف السوري بأكمله، وهو ما سيتضمن إعادة فهم الحسابات التركية، انطلاقاً من مطامع حقيقية ومصالح متشابكة وفوائد تعمل في اتجاه واحد، وهو ما تدركه كل الأطراف العربية وسوريا في آن واحد.
رابعا: إذاً لن تكون المشكلة في استعادة سوريا موقعها في الجامعة العربية أو بقاء الأوضاع على ما هي عليه في الفترة المقبلة، سواء تم في مارس المقبل أو بعده، خاصة أن النظام السوري قد يقدم على بعض الخطوات التي تعجل بعودة عجلة مؤسسات العمل العربي مرة أخرى على الأقل في الإطار الشكلي وليس الجوهري، وهو ما يمكن أن يكون مقبولاً ومطروحاً على جميع المستويات السياسية والاستراتيجية، والمؤكد أن سوريا كدولة في حاجة إلى معطيات وأوراق اعتماد حقيقية لإعادة استيعابها بالفعل في ظل الرهانات السياسية والاستراتيجية القائمة، والتي تعطي فرصة لعودة سوريا إلى محيطها العربي الحقيقي والعمل، انطلاقاً من ضرورة قيامها بدورها في الإقليم العربي، وليس الفضاء الشرق أوسطي، والتي تسعى دول مثل إسرائيل وإيران إقليمياً والولايات المتحدة دولياً للعمل من خلاله، ومن ثم فإن إسرائيل تحديداً ستنطلق في رسم سيناريوهاتها تجاه سوريا، ولن تتراجع عن خطها العدائي، وملاحقة قوات حزب الله وقوات الحرس الثوري، وسواء تم إعادة آلية الإنذار الاستراتيجي بين تل أبيب وموسكو أو لم يتم فإن إسرائيل ستستمر في وضع خطوطها الحمراء في سوريا اليوم وغداً، ولن تقبل بمراجعة ضيقة للحسابات السياسية الراهنة والتي تربطها بتحديات الأمن الاستراتيجي، والمخاوف من تمدد دور لإيران في الإقليم على حساب الأمن القومي الإسرائيلي، والذي ما زال يواجه انتقادات حقيقية من الداخل الإسرائيلي، متمثلة في عدم تأمين الحكومة الإسرائيلية طموحاتها في تأمين الجبهة الإسرائيلية بالكامل، وهو ما سيتطلب تقييماً حقيقياً على كافة المستويات السياسية والاستراتيجية في الفترة المقبلة، خاصة مع المزايدات الأمنية والإعلامية التي سيعمل عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لإقرار جدارته باستمراره في حكم إسرائيل، واستمراره بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية التي سيكون على رأسها في منافسة صقور اليمين الإسرائيلي مثل فيتالي بينت وأفيجدور ليبرمان وكحلون وليبيد.
إذاً نحن أمام مشاهد عدة وتطورات مفصلية لن تكون فقط في مسار إعادة العلاقات العربية السورية، وإنما أيضاً في شكل التخطيط لترسيم شكل المنطقة وتحالفاتها في الفترة المقبلة، انطلاقاً من تسوية سوريا أساساً مع العمل على تقديم الحسابات الدولية للقوى المتصارعة على أي حسابات سياسية واستراتيجية ثانية، في ظل بقاء القوات الأجنبية على الأراضي السورية، وعدم وجود حديث ولو بصورة غير رسمية عن عودة قوات الحرس الثوري وقوات حزب الله، الأمر الذي يؤكد أن النظام السوري سيظل متمتعاً بحماية إقليمية ودولية في مواجهة التطورات السياسية والاستراتيجية الجارية في المنطقة.
من سوريا ستبدأ التفاهمات وتقدير الحسابات والسياسات للقوى المختلفة، ومن ثم فإن التعجيل بعودة العلاقات العربية السورية ستكون مدخلاً حقيقياً ومهماً لمواجهة بعض ما يجري والوقوف في مواجهة بعض المخططات التي تحاك بالمنطقة ودولها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة