ما إن تنفست المنطقة الصعداء بعودة سوريا للحضن العربي وقرب إعلان الهدنة باليمن حتى اندلعت مواجهات بين جناحي المكون العسكري بالسودان على خلفية توترات مرتبطة بتفاهمات الاتفاق الإطاري، ومسألة دمج قوات الدعم السريع بالجيش.
التصعيد في السودان كان مفاجئا، وفي أيام مباركة من شهر رمضان، ولكنه كان متوقعا أيضًا، بسبب التباين الشديد بين رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش، الفريق أول "عبدالفتاح البرهان"، ونائبه، قائد قوات الدعم السريع، "محمد حمدان دقلو" (حميدتي)، بحيث يسعى الطرفين لفرض أجنداتهم على مستقبل العملية السياسية، في ظل ازمة اقتصادية متفاقمة، وتصاعد لأزمة نقص الوقود والغذاء.
جذور الأزمة تعود إلى العام 2013، في عهد الرئيس السابق "عمر البشير"، حينها رفض الجيش دمج قوات الدعم السريع، لأنها قوة من عدة مكونات قبلية، تشكلت في بدايتها كحرس حدود، باسم "الجنجويد"، ثم تنامت حتى حصلت على الشرعية كقوة مستقلة في العام 2017، وشاركت في الإطاحة بالبشير عام 2019، ليتقاسم "حميدتي" السلطة مع "البرهان".
يرتكز الخلاف بين المكون العسكري، حول إصرار الجيش على دمج قوات الدعم السريع خلال عامين، وهو ما أدى إلى تأجيل توقيع الاتفاق النهائي الإطاري، لتسوية الأزمة السياسية في السودان، فيما تريد قوات الدعم السريع، تأجيل الخطوة لمدة 10 سنوات، ما يعكس صراع النفوذ بين "البرهان" و"حميدتي"، ولهذا يحاول الجيش الإسراع في عملية الدمج، وتقليص صلاحيات الأخير.
يعاني السودان من اضطرابات سياسية، منذ استقالة حكومة "عبدالله حمدوك"، على إثر أحداث أكتوبر/تشرين الأول 2021، والتي اعتبرها (البعض) انقلابا على السلطة المدنية، واعتبرها الجيش إجراءات تصحيحية بتفويض شعبي، تدخلت بسببها عدة قوى دولية، سميت "بالآلية الثلاثية" (الأمم المتحدة ومجموعة الإيغاد، والرباعية المكونة من الإمارات والسعودية، والولايات المتحدة وبريطانيا)، والتي أدارت مفاوضات للوصول إلى حل يرضي الأطراف المدنية والعسكرية، ولهذا تسعى القوى المدنية لتقليص نفوذ المكون العسكري.
تكمن حسابات الجيش السياسية والعسكرية، من خلال توظيف توقيت النزاع المسلح، لنزع الشرعية القانونية عن الدعم السريع، عبر قرار حل القوات، وتسميتها "بالمليشيات المتمردة"، وبهذا تدفع قوات "حميدتي" للانشقاق، والانضمام إلى منظومة الجيش، ومحاولة حصر القوات بمنطقة دارفور، على أقل تقدير ليكون تأثيرها محدود نسبيا.
بينما توظف قوات الدعم السريع المواجهات المسلحة إعلاميا، باتهام الجيش بتعطيل الاتفاق النهائي الإطاري، وترويج فكرة تخادم بين الجيش وفلول نظام البشير، وبهذا يحاول "حميدتي" استمالة الأطراف الدولية والإقليمية والقوى المدنية المهتمة، وميدانيا ركز الدعم السريع على تحييد السلاح الجوي، وإبقاء العمليات العسكرية في العاصمة الخرطوم، لأنها تحتوي على مقار الحكم، ولأنها مأهولة بالسكان، ما يضع الجيش في موقف صعب لحسم المعركة، دون خسائر في صفوف المدنيين.
أتوقع عدة سيناريوهات لاحتواء الأزمة، ولعل أحدها التهدئة الشاملة بوساطة دولية وإقليمية، تؤدي إلى توافق حول دمج الدعم السريع بالجيش، بشرط إيجاد تفاهمات حول آليات الدمج، وهناك سيناريو توقف الأعمال العسكرية دون حسم مسألة الدمج، ويبقى سيناريو تفوق الجيش واردا، في ظل التفوق الجوي، ما يعني استمرار الحرب والفوضى لفترة طويلة، قد تستغرق سنوات، ما يتطلب سرعة تدخل المجتمع الدولي.
موقع السودان الاستراتيجي على البحر الأحمر، ومنطقة الساحل والقرن الإفريقي، يفسر ردود الفعل الدولية والإقليمية الواسعة، والتي اتجهت جميعها نحو الدعوة إلى وقف إطلاق النار، والعودة للحوار، دون الانحياز لطرف على حساب طرف، وستشكل الإمارات والسعودية ضمن (الرباعية)، ومعهم مصر، دورا مهما للوساطة وتفعيل الآليات العربية، لوقف التصعيد والعودة إلى المسارات السياسية، لتجنيب الشعب السوداني خطر الانزلاق إلى حرب أهلية -لا سمح الله- والسودانيين اليوم في أشد الحاجة إلى دولة مدنية، بصرف النظر عن المنتصر في المعركة الراهنة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة