أوتا بينغا.. الكونغولي الذي فضح «قفص العنصرية»

لم تكن حياة أوتا بينغا سوى مرآة عكست الوحشية الخفية وراء شعارات "الحضارة" و"التقدم" في أوائل القرن العشرين.
فقد بينغا عائلته ووطنه وحريته، ليس بسبب حرب تقليدية، بل بسبب آلة استعمارية رأت في جسده وعِرقه سلعةً تُباع وتُشترى، وشاهدًا مزيفًا على تفوُّق البيض.
قصته ليست مجرد سرد مأساوي، بل هي إدانة صارخة لعنصرية مُمنهجة حوَّلت الإنسان إلى مُجرد "كائن للعرض"، بحسب موقع "ذا كولكتر".
فعندما ذهب سكان نيويورك إلى حديقة حيوان برونكس يوم السبت 8 سبتمبر /أيلول 1906، استمتعوا بعرض لمخلوق جديد في بيت القرد.. ولم يتأكدوا حينها أي نوع من المخلوقات هو، ولكنهم قرأوا لافتة في المدخل تشير إلى احتضان الحديقة لمخلوق قديم يمثل الحلقة الضائعة للتطور البشري.
وكان هذا "الوحش" الغريب قصير القامة وأسود اللون ولديه أسنان حادة لا تشبه أسنان البشر ولكنه قدم عروضا مسلية داخل قفص القردة.
وتسلط قصة أوتا بنغا المزعجة والمأساوية في نهاية المطاف الضوء على الوضع الهش للحياة السوداء وقيمتها في أمريكا في أوائل القرن التاسع عشر، بعد حوالي 4 عقود من إلغاء العبودية الأمريكية.
من غابات الكونغو إلى أقفاص أمريكا: رحلة الاختطاف
وُلد أوتا بينغا في أحضان غابات الكونغو المطيرة، حيث عاش كصيَّادٍ ماهر ينتمي لشعب "المبوتي"، لكن عالمه انقلب رأسا على عقب عام 1904 عندما هاجمت قبيلة مُنافسة قريته، ففقد زوجته وطفليه، ووقع أسيرًا بيد تجار الرقيق المحليين، ليباع بمبلغ زهيد لـ"صامويل فيرنر"، المبشر الأمريكي الذي حوَّل فشله في إنشاء كنيسة بالكونغو إلى مشروع تجاري سادي عبارة عن جلب "الوحوش البشرية" إلى معارض أمريكا.
وفي معرض سانت لويس العالمي (1904)، وُضع بينغا مع 4 رجال كونغوليين في "قرية أفريقية" مُزيَّفة. وأُجبر على ارتداء أوراق الشجر والرقص أمام الزوار، بينما وصفه المنظمون بأنه "آكل لحوم البشر المتوحش".
ولم تكن هذه العروض ترفيهية فحسب، بل مُسوَّغة بأبحاث عنصرية زعمت أن جمجمته الصغيرة وأسنانه المدببة "تثبت" تخلُّف السود بيولوجيًا. ولاحقًا، نُقل إلى نيويورك حيث أُغلق عليه في قفص مع قرد أورانغوتان، ليصير رمزًا لـ"الحلقة المفقودة" في نظرية التطور الداروينية المُحرَّفة.
حديقة حيوانات برونكس: حيث أصبح الإنسانُ مَهرجًا
تحت إشراف عالم الحيوان "ويليام هورناداي"، تحوَّل بينغا إلى مصدر جذب لحديقة برونكس.. كان الزوار يلقون عليه الحجارة ويُصوِّرونه كـ"وحش"، بينما هو جالسٌ في قفصه حاملًا قوسه الوحيد كذكرى أخيرة من حريته، وحاول الاحتجاج برمي الكراسي على حراسه، لكن ذلك زاد من قسوة عزلته.
وتدخَّل رجال دين أمريكيون من أصل أفريقي عام 1906 لإنقاذه، بعد أن أدركوا أن ما يحدث ليس مجرد إذلال، بل جريمة إنسانية.
النفي حتى في الحرية: "المتحضر" الذي حنَّ إلى الغابة
بعد إطلاق سراحه، انتقل أوتا بينغا إلى دار أيتام في بروكلين، رغم كونه رجلًا بالغًا، وفي عام 1910، نُقل إلى لينشبرغ، فيرجينيا، حيث التحق بمعهد لاهوتي هناك.
وفي ليالي الوحدة، كان يبكي لزملائه عن غابته المفقودة، ويحلم بالعودة إلى حيث تُغنِّي الطيور ولا توجد أقفاص.
أجبر بينغا على ارتداء الملابس الأوروبية، كما تم إعادة تشكيل أسنانه لإخفاء مظهره "غير المتحضر".
ورغم تفوقه أكاديميًا، لم يجد السعادة في دراسته، وبدلًا من ذلك، وجد راحته في تعليم الصبيان المحليين الصيد وصنع الفخاخ.
الانتحار: الرصاصة الأخيرة التي هزَّت ضمير العالم
في 20 مارس/آذار 1916، وبعد سنوات من الإذلال، جمع بينغا قطعًا من الخشب، أشعل نارًا كتلك التي كان يوقدها في غابته، ووجَّه مسدسًا إلى قلبه.
ربما رأى في الموت خلاصًا من عالم رفض أن يعامله كإنسان.. جثته دُفنت في قبر مجهول، لكن قصته بقيت تُذكِّرنا بأن العنصرية ليست مجرد أفكار، بل آلة تقتل ببطء.
إرث أوتا بينغا: الجرح الذي لم يندمل
اليوم، تُحاول حديقة حيوانات برونكس محو ذكرى هذه الفضيحة، بينما تُدرِّس جامعات أمريكا قصة بينغا كرمز لخطورة "العنصرية العلمية".
لكن الأهم من الاعتراف بالتاريخ هو مواجهة استمرار نفس الأفكار: ففي عام 2020، تعهَّد متحف التاريخ الطبيعي بنيويورك بإزالة تمثال "ثيودور روزفلت" – أحد داعمي عروض بينغا – من واجهته، كتذكير بأن العنصرية لا تتنكر دائمًا خلف أقفاص، بل قد تتخفى في تماثيل وألقاب "بطولية".
aXA6IDMuMTIuMTk2LjkzIA== جزيرة ام اند امز