الواقع الراهن في مجمل الوطن العربي هو نتاج طبيعي لتراكم أحداث وممارسات وأفكار تاريخية.
الواقع الراهن في مجمل الوطن العربي هو نتاج طبيعي لتراكم أحداث وممارسات وأفكار تاريخية، تعاظم أثرها عبر العقود الأخيرة، ولم يكن نتاجاً لأوضاع راهنة، أو أفكار سقطت علينا بالمظلات فجأة من السماء.
لا يستطيع حكيم أو باحث جاد صاحب عقل وتبصر أن يضع حدوداً فاصلة بين ما هو اقتصادي واجتماعي وسياسي وإداري، من ناحية، وبينها وبين جذور الإشكاليات الراهنة، والكيفية التاريخية التي نبتت فيها.
نستطيع جمع منظرِّين واستشاريين من كل أنحاء الأرض، لدراسة ما أصاب الوطن العربي من خيبات متلاحقة، وفوضى لا تبدو لها نهاية قريبة، وليقدموا لنا وصفات وتجارب بلدانهم، ويقترحوا تغيير منظومات معارفنا أو حتى تجديدها.
ثمة لحظات في حياتنا، كأفراد وجماعات ودول، تتحول إلى اختبارات عسيرة لفرز الوهم عن الواقع كما هو.
ولا شك في قدرة هؤلاء، على قراءة الحاضر ومساراته ومآلاته، لكن تبقى منهجية البحث ركيكة إذا لم تدرك التراكم التاريخي للإشكاليات، ولا تربط التاريخ بالواقع.
الحروب والنزاعات، مجرد فقاعات في مسيرة التاريخ، الأهم هو معرفة حالة السكون العميق أو التبدلات العميقة، والمنعطفات التي تتم على المدى التاريخي الطويل، لأنها تستغرق أجيالاً.. وهذه المعرفة هي الأقرب إلى الحقيقة.
نحتاج في هذا الجزء من الوطن العربي، أقصد في إقليم الخليج إلى أن نوقظ الأسئلة النائمة، وأن نسهم كمفكرين ومبدعين في إحداث توازن عام لدى الأجيال في ظل متغيرات جارفة، وانفتاح على العالم في فترة شديدة التعقيد، تتميز وتيرتها بالسرعة المذهلة، وتحضر فيها مؤسساتنا الرمزية والمادية لاستقبال رياح التغيير.. لكن بأي ثمن؟ وكيف؟؟
بعضنا تستغرقه إشارات النجاح، أكثر من جوهر النجاح أو الإنجاز.. ولعلي أجازف بالقول إن ذلك يقع في «وهم» النجاح.. وقرأت مؤخراً عن مرض يصيب نخباً سياسية وثقافية واقتصادية يسمى مجازاً (الرضى عن الذات) حيث يتوقف لديها امتلاك الحس النقدي واليقظة المتصلة.
وبعضنا، أفراداً أو جماعات أو دولاً، يَغشاه «وهم» القوة والمنعة، وديمومة الظروف المواتية، ولنا تجربتنا المريرة في ثنايا ما سمي بالربيع العربي، وقلِّة منَّا أدركت مبكراً مخاطر العودة المجلجلة لتركيا وإيران إلى الإقليم العربي. بعد غياب لأكثر من قرن.. بما تحمله هذه العودة من «أوهام» القوة و«أساطير» ديمومة الظروف المواتية.
حينما نستحضر أوهام العظمة، تأتي إلى الذاكرة دوماً، قصة (دون كيشوت)، للروائي الإسباني (سيرفانتيس)، عن الفارس الذي يمتطي حماراً، متوهماً أنه حصان أصيل، ويمتشق سيفاً من خشب، ويتسلح بدروع وهمية، وينطلق لمصارعة آخرين.
(دون كيشوت) هو مثال حي لطغيان الوهم على الواقع وقد قرأت مؤخراً، حكاية قديمة ترويها كتب التراث العربي، وربما الأدب العالمي أيضاً، عن أمير بلاد بعيدة، كان قد أهدى ابنته في يوم زفافها، عقداً من الذهب مرصعاً بالزمرد، لكن الابنة، في خضم حفل الزفاف، أضاعت العقد، فحزنت حزناً شديداً، وقام الأمير بتخصيص جائزة ثمينة لمن يعثر على العقد، ومرت الأيام ولم يتمكن أحد من العثور على العقد، لكن راعياً للغنم، وأثناء سيره بقطيعه على المراعي القريبة، قرب جدول من الماء الآسن، نظر صدفة إلى الماء، وإذ به يرى عقد الذهب في قاع الجدول.
مد الراعي يده ليلتقط العقد، لكنه لم ينجح في ذلك، وكرر محاولته ولكنه في كل مرة يضع يده في الماء كان العقد يختفي، وكلما نظر الراعي إلى ماء الجدول كان يرى العقد، فيعود في محاولة أخرى، حتى يئس من ذلك، وقرر في نهاية المطاف، أن يغطس في الماء بكل جسده لالتقاط العقد، لكنه لم يفلح أيضاً، فخرج خائباً حزيناً منهكاً.
وبينما الراعي في هذا الوضع البائس، إذ بعجوز حكيم يسير قرب الجدول، يتأمل في الكون من حوله، فوقعت عيناه على الراعي وهو ملقى على الأرض من شدة الإنهاك والبرودة، فسأله العجوز عن خطبه، وبعد إلحاح العجوز، قال الراعي: «إن عقد الأميرة الذي فقدته يوم زفافها موجود في قاع الجدول، لكنني لا أستطيع انتشاله من الماء، ولا أعرف السبب».
قال العجوز الحكيم للراعي: يا بني، أراك مهلكاً نفسك لأنك تنظر إلى المكان الخطأ، وتبحث في المكان غير الصحيح، انظر إلى ذلك الغصن من الشجرة، فالعقد معلق عليه، وما تراه في ماء الجدول، ليس سوى «الوهم».
ثمة لحظات في حياتنا، كأفراد وجماعات ودول، تتحول إلى اختبارات عسيرة لفرز الوهم عن الواقع كما هو.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة