أصبحت تركيا الممر الآمن للمقاتلين الأجانب من كل أنحاء العالم الذين جندتهم داعش للالتحاق بها
في سبتمبر 2014, انعقد في جدة مؤتمر شارك فيه وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر، والأردن، والعراق، ولبنان، وتركيا، والولايات المتحدة للتنسيق فيما بينها بشأن مكافحة تنظيم داعش الارهابي، الذي كان قد سيطر على مساحات واسعة في سوريا والعراق. وكانت المُفاجأة أن تركيا رفضت التوقيع على البيان الختامي للمؤتمر. جاء هذا الرفض رغم حرص الولايات المتحدة على قيام تركيا بدور في هذا التحالف, وزيارة كل من وزير الدفاع هاجل ووزير الخارجية كيري لأنقرة، والاجتماع مع رئيس الوزراء أردوغان لحثه على المشاركة في هذا التحالف، وأكدت تركيا موقفها في يناير 2015 وإعلانها رفض المشاركة في الحرب ضد داعش.
باندحار داعش، ركزت تركيا على حلفاء آخرين كجبهة النصرة التي تحولت إلى حركة أحرار الشام، وعدد من التنظيمات المتطرفة الأخرى التي ما زالت تنشط بدعم وحماية من تركيا. وقامت بدعم مليشيات مماثلة في ليبيا واليمن دون أن يكون هناك هاجس كردي فيها.
وكان التفسير السائد وقتها لهذا الموقف الغريب أن تركيا تحفظت على تسليح الأكراد في سوريا والعراق ومشاركتهم في القتال ضد داعش؛ لأنها تعتبرهم مصدرا للإرهاب وتتهمهم بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني الذي يقوم بعمليات إرهابية داخلها، أو أنها لا ترغب في استعداء داعش عليها بعد سيطرتهم على مناطق واسعة في سوريا والعراق ووجود حدود طويلة لها مع هذين البلدين تصل إلى 1153 كيلومترا، خاصة أنه في هذا الوقت كان هناك تسعة وأربعون من الدبلوماسيين والعمال الأتراك الذين اعتقلهم تنظيم داعش بعد سيطرته على الموصل، وكانت تركيا تتفاوض لإطلاق سراحهم.
وعلى مدى السنوات التالية، تبين أن الأمر أعمق من ذلك، وأنه لا يقتصر على الرغبة في عدم استعداء داعش فقد تحولت العلاقة بين تركيا وهذا التنظيم المتطرف الإرهابي إلى علاقة تعاون وثيق، وأن تركيا استخدمته لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية، وتنفيذ أهدافها الإقليمية في المنطقة مستغلة في ذلك احتياج داعش للتسهيلات التي قدمتها على خط الحدود، بحيث لا يكون من المبالغة القول بأن تركيا تصرفت كحليف لداعش، فأصبحت رئة داعش ومصدر دعمها الأساسي.
وصدرت عدة تقارير من مراكز بحثية وأمنية عن الدور التركي في دعم داعش مثل التقرير الذي أصدره مركز مكافحة الإرهاب بأكاديمية "وست بوينت" West Point العسكرية الأمريكية في 2014، والدراسة التي أعدها "ديفيد فيليبس" مدير برنامج بناء السلام التابع لمعهد بحوث حقوق الإنسان بجامعة كولومبيا الأمريكية نوفمبر 2014. والتقرير الذي أعده أرون ستين الخبير بالشؤون التركية والمُقدمة لمجلس النواب الأمريكي في أكتوبر 2016 والتي ركز فيها على شبكات التجنيد التي أدارها تنظيم داعش في تركيا، والتقرير الذي أعده أحمد يايل الرئيس الأسبق لإحدى وحدات مكافحة الإرهاب في تركيا الذي سلط فيه الضوء على عمليات تجنيد داعش للأتراك والصادر عام 2019، وتقارير مُتنوعة لشهادات بعض أعضاء تنظيم داعش عن تعاون السلطات التركية مع التنظيم، أحدثها التقرير الصادر عن المركز الدولي لدراسة التطرف العنيف في مارس 2019، وتصريحات عدد من قادة الجيش التركي في أعقاب خروجهم من الخدمة أو استقالاتهم بسبب الخلاف مع سياسات أردوغان.
أصبحت تركيا الممر الآمن للمقاتلين الأجانب من كل أنحاء العالم الذين جندتهم داعش للالتحاق بها، فكانوا يصلون إلى أحد الموانئ أو المطارات التركية، فيقوم مسؤولو داعش باستقبالهم في أحد المنازل التابعة لهم حيث يتم استجوابهم ومعرفة مجالات التخصص والخبرات حتى يتم الاستفادة القصوى منهم، ويقومون أيضا بالتأكيد على الالتزام العقدي لأفكار التنظيم، والتحقق من معرفتهم بأيديولوجية التنظيم وإيمانهم بتبرير العنف وضرورة القتال ضد الكفار والزنادقة ثم يتم نقلهم إلى إحدى المدن الحدودية، ومنها عبر نقاط عبور إلى الداخل. وكل ذلك بالطبع كان يحدث بعلم الجيش وأجهزة المخابرات التركية. وتم استخدام الممر نفسه لتهريب الأسلحة والذخيرة إلى داعش.
كما أصبحت تركيا هي الحاضنة التي تضمن استمرار التنظيم الإرهابي، وقامت المستشفيات في المناطق الحدودية باستقبال الجرحى والمصابين من مقاتلي داعش وتقديم العلاج اللازم لهم. وتم ترتيب ذلك بعناية وبتنسيق بين الطرفين فكان المصابون ينقلون من سوريا إلى الحدود حيث يتم إنزالهم وركوبهم سيارات إسعاف تركية لتوصيلهم إلى أقرب مستشفى.
وقام التنظيم الإرهابي بتجنيد عدد من المتطرفين الأتراك للانضمام إلى صفوفهم -وإن كان هذا العدد أقل بكثير ممن جاءوا من المغرب وتونس وفرنسا على سبيل المثال- وربما لم يرغب مسؤولو داعش في التوسع في تجنيد الأتراك للحفاظ على علاقاتهم الطيبة مع الحكومة. وأيا كان الأمر، فقد نشأ في تركيا شبكة من الأشخاص والمكاتب الممثلة لداعش في عدد من المدن التركية.
وكشف أبومنصور المغربي الذي تولى مسؤولية التنسيق بين داعش والمخابرات التركية في فبراير 2019، النقاب عن الكثير من خفايا العلاقات. كان من بينها دور الحكومة التركية في توفير مياه نهر الفرات اللازمة للزراعة وتوليد الكهرباء من السدود، وذلك استمرارا للاتفاق المبرم بين الحكومة التركية ونظام بشار الأسد في هذا الشأن.
استفادت تركيا اقتصاديا من هذه العلاقة فقام التجار الأتراك من مؤيدي حزب العدالة والتنمية بالاتجار مع المناطق التي تسيطر عليها داعش وتزويدها بما تحتاج إليه من مؤن وسلع وأدوية وحقق ذلك لهم أرباحا طائلة، وقام أشخاص وشركات تركية بشراء النفط الذي استخرجته داعش من الآبار الموجودة في المناطق تحت سيطرتها، وبثت الشبكات التليفزيونية صورا من الأقمار الصناعية تبين خط سير العربات المحملة بالنفط وصولا إلى أحد الموانئ التركية.
استمر هذا التعاون بين تركيا داعش في الوقت الذي كان فيه هذا التنظيم يُمارسُ أعتى صنوف الإرهاب المادي والمعنوي في المناطق التي سيطر عليها في سوريا والعراق. وقام بجرائم ضد التاريخ عندما دمر الأماكن الأثرية في تدمُر ومنها تمثال "اللات" -وهو تمثال في هيئة أسد- الذي يعود إقامته إلى أكثر من ألفي سنة مضت، وقصف معابد "بالشامين" و"بيل" القديمة، والمسرح الروماني بالمدينة. ودمر مواقع أثرية تعود إلى العصور اليونانية والرومانية، وعدد من الكنائس والمساجد في مدينة حلب، وبعض مزارات الشيعة مثل مسجد عمار بن ياسر في مدينة الرقة في سوريا.
وفي الموصل، قام التنظيم الإرهابي بحرق مكتبة المدينة التاريخية، وهدم بعض المقابر، وتدمير أماكن العبادة والمواقع التاريخية القديمة التي بلغ عددها 28 مبنى تاريخيا وأثريا. وفي مدينة نمرود، جنوبي الموصل، تم تدمير ما يقرب من 80% من مواقعها التاريخية الأثرية التي تعود إلى الحضارة الآشورية. وأيضًا في الوقت الذي قام فيه التنظيم الإرهابي بالاستيلاء على الآثار الموجودة في المتاحف وتهريبها وبيعها في الخارج. وكثير من هذه الأماكن اعتبرتها منظمة اليونسكو جزءًا من التراث الإنساني للبشرية.
على مدى سنوات، ظل الهاجس الكردي هو الاعتبار الأول لدى تركيا، وعندما حققت قوات البيشمركة انتصارات في ريف حلب الشمالي في 2016، تدخل الجيش التركي لمنع التقدم الكردي وقصفت المدفعية التركية القرى الكردية، وقامت الطائرات التركية بطلعات على مناطق بعيدة عن جبهات القتال لا توجد فيها اشتباكات مهمة. استخدمت تركيا العلاقة مع داعش لحماية حدودها والسيطرة على شمال سوريا، وإقامة منطقة آمنة تحتلها داعش وتفصلها عن مناطق الأكراد حتى عام 2018 عندما انهزم التنظيم وتقلصت المساحات التي سيطر عليها بفعل الضربات الجوية للتحالف الدولي وروسيا، والهجمات القوية التي شنتها قوات سوريا الديمقراطية- وقوامها الأكراد- والتي مثلت القوة الضاربة على الأرض لتحرير مدينة كوباني "عين العرب" ومدينة الرقة، وغيرها من معاقل داعش، وحملة الجيش العراقي لتحرير الموصل، فتوترت العلاقات بين الطرفين. سعت تركيا إلى تعطيل حملة الجيش العراقي وذلك بافتعال المشاكل ولعبت على أكثر من وتر: الوتر الطائفي بإعلانها أن تركيا حامية السنة في العراق. والوتر العرقي بزعمها أن الموصل مدينة تركية مداعبة بذلك مشاعر التركمان من أهالي المدينة، وأصرت على أن يكون لها دور عسكري في تحرير الموصل وهو ما رفضته الحكومة العراقية رفضا كاملا.
وباندحار داعش، ركزت تركيا على حلفاء آخرين كجبهة النصرة التي تحولت إلى حركة أحرار الشام، وعدد من التنظيمات المتطرفة الأخرى التي ما زالت تنشط بدعم وحماية من تركيا. وقامت بدعم مليشيات مماثلة في ليبيا واليمن دون أن يكون هناك هاجس كردي فيها. فهل أصبح تأييد المليشيات العسكرية المتطرفة أداة من أدوات سياسة تركيا الإقليمية؟ أم أنه تعبير عن نزعات وهوية إمبراطورية باسم "العثمانية الجديدة" التي يرفع أردوغان شعاراتها؟ وكيف نفهم تصريح رئيس وزراء تركيا الأسبق "أحمد داوود أوغلو" يوم 26 أغسطس الماضي الذي حذر كِبار المسؤولين الأتراك في الحكومة وحزب العدالة والتنمية بأنه إذا فُتحت ملفات الإرهاب، فإنه لن يستطيع أصحابها النظر في وجوه الناس، مُضيفا أن الفترة من يونيو إلى نوفمبر 2015 تُعد الأصعب في تاريخ تُركيا السياسي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة