حين هاجم "كوفيد 19" العالم واتضحت الرؤية سريعا أننا نواجه جائحة.
ترددت الجملة الأشهر في التاريخ الحديث والتي تسبق كل تغيير كبير يضرب اقتصاد العالم، بل كانت سببا مباشرا في سقوط إمبراطوريات وإقصاء قياصرة ونهاية طغاة.
"لن يكون العالم بعد هذا التاريخ مثلما كان قبله".. هي الجملة التي ترددت عند انهيار جدار برلين حين شعر العالم أنَ تفكك الجدار كان نذيراً باندحار نموذج وانتحار إمبراطورية، ليصحو العالم ذات يوم ليبحث عن الاتحاد السوفيتي الذي كان يمتلك من الصواريخ النووية ما يكفي لتدمير الأرض مرات عدة ولم يجده، ومر الحادث الكبير مخلفا ورائه عالم بلا أنداد باختصار إنه عالم القطب الواحد الأمريكي.
الوضع الأمريكي عقب أحداث 11 سبتمبر ليس ببعيد عن أصداء الجملة نفسها، حين عبر تنظيم القاعدة القارات ونقل حربه إلى الأراضي الأمريكية لتخرج الولايات المتحدة الجريحة كالمارد صوب أفغانستان والعراق ودول أخرى، ليرتجف الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق.
من أقصى الشرق وبعد أقل من 20 عام على نهضة نيويورك الأمنية الكبرى بعد تفجير أبراج التجارة الشهيرة، اقترنت نفس الجملة "لن يكون العالم بعد هذا التاريخ مثلما كان قبله"، بفيروس كورونا الجديد، أو بالأدق أخطر وباء في العالم الحديث، كونه الفيروس الذي تفشى في قرية كونية صغيرة، متخطيا حواجز نيويورك الأمنية، متجاوزا البوابات الإلكترونية شديدة الدقة في مطارات أوروبا، كاسرا قواعد العادات الكلاسيكية في آسيا، فارضا حصارا من نوع جديد تحت مظلة اسمها التباعد الاجتماعي.
اجتماعيا وقبل كورونا كانت جملة "لن يكون العالم بعد هذا التاريخ مثلما كان قبله" يشوبها نوع من المبالغة والحساسية الشديدة لدوافع أيديولوجية وللميول السياسية بين اليمين والشمال بين الرأسمالية واشتراكية السوفييت المختفية، لكن في حالة كورونا كانت الجملة أكثر دقة ودون مبالغة، فإذا كانت الخسائر المالية بعد تفجيرات 11 سبتمبر تفوق التريليوني دولار بحسب التقرير الصادر عن لجنة 11/9، وتكاليف الحرب اللاحقة لها على أفغانستان والعراق بلغت 4 تريليونات دولار حسبما قدرتها جامعة براون، فقد تخطت خسائر العالم من جائحة كورونا 12.5 تريليون دولار خلال عام 2020 فقط، وستتضاعف ثلاث مرات بحلول 2025 حسبما توقع صندوق النقد.
قبل أن يعرف العالم صندوق النقد الدولي هاجم الكرة الأرضية أوبئة عديدة، كان أشرسها عام 1918، حيث اجتاح وباء الانفلونزا الإسبانية العالم، وأودى بحياة ما يتراوح بين 40 و 50 مليون شخص، وكانت الفيروسات لا تزال حديثة الاكتشاف، ولم يدرك الأطباء حينها بالطبع أن الفيروسات هي التي تسبب هذا المرض، وكان الطريق أمامهم لا يزال طويلا لاكتشاف الأدوية المضادة للفيروسات، واللقاحات التي تساعد الآن في كبح تفشي المرض وتسريع التعافي من الأوبئة.
إن أشد الأوبئة الفتاكة أيضا ما شهدته أوروبا عامي 1348 و 1349 ما عرف باسم الطاعون الأسود الذي أسفر عن مقتل نحو 20 مليون شخص، وكانت المفاجأة الكبرى بعد زمن طويل حين ذكرت دراسة صدرت عام 2018 أن البشر كانوا المسؤولين عن العدوى في ذلك الوقت وليست الفئران.
ومن فئران أوروبا سنة 1348و جرثومة مرض "الموت الأسود" أو الطاعون في لندن عام 1665، والحمى الصفراء في فيلاديلفيا الأمريكية عام 1793، والكوليرا في جنوب شرق آسيا سنة 1820، وإيدز الكونغو الديمقراطية سنة 1976، وخنازير المكسيك 2009، وخفافيش الصين في 2020، فإن هناك حقيقة واحدة وثابتة في أزمنة الوباء وهي أن الموجة الأولى دائما هي الأشد فتكا بالضحايا، وأن سنة واحدة كافية للوصول إلى لقاح لحصار الفيروسات، وتفاؤلا وأملا في قوة العلم وبعيدا عن نظرية المؤامرة التي تغلف عقول الكثير، ليس كورونا ببعيد عن نهاية أشرس الأوبئة التي مر بها العالم.
فالعالم بكل كياناته وقوته ومعداته اعترف علنا من أقصى الشرق إلى أدنى الغرب مرورا بروسيا والتحالف الأوروبي بأن كورونا يكاد يحقق ما عجز عنه خبراء وجنرالات، وهو إحداث انقلاب على التوازن الدولي الذي كان قائماً، لتظهر دقة الجملة المرعبة: "لن يكون العالم بعد هذا التاريخ مثلما كان قبله" سواء استخدمت لقاح القيصر الروسي أو الترياق السامي الأمريكي أو لقاح الصين العظيم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة