بعد أن قدم الرئيس الأمريكي المنتخب بايدن أغلب الأسماء التي ستتولى مواقع مسؤولة في إدارته المقبلة..
والتي ستدير مهام الحكم رسميا في 20 يناير المقبل- وبصرف النظر عن الآلية الفيدرالية الموضوعة، والتي ستسمح بمرور الأسماء بصورة أوتوماتيكية، أو التحفظ على بعض الأسماء، وهو أمر طبيعي في إطار المقايضات الراهنة والمتعارف عليها بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فإن السؤال هو هل يمكن تقديم رؤية استشرافية للسياسات الخارجية الأمريكية على الأقل فيما يخص الشرق الأوسط والقضايا العربية بالأساس؟ والإجابة بالتأكيد خاصة أن النسق العقيدي والأيديولوجي الحاكم للرئيس المنتخب معروف لدينا في العالم العربي جيدا منذ أن كان نائبا للرئيس أوباما، ولكن الإشكالية الحقيقية تكمن في عدة معطيات محددة.
منها أن هناك تشبيهات غير صحيحة تشير إلى أن ولاية الرئيس جو بايدن ستكون ولاية ثالثة للرئيس أوباما، وأن هناك سياسات مشابهة ستتم في سياق ما قامت به هذه الولاية، وهذا غير صحيح مع التقدير بأن الإدارة الأمريكية الجديدة ستضم أسماء عديدة سبق وإن تولت مواقع متقدمة في إدارة الرئيس أوباما لكن الأمر تغير تماما، خاصة أن الرئيس نفسه بايدن سينتقل من الرجل الثاني للرجل الأول بصلاحيات، ومهام الرئيس، وفقا للنظام الفيدرالي الأمريكي، تتجاوز دور الكونجرس ومؤسسات نظام الحكم الأمريكي بأكمله، ومن ثم فإن الرئيس المنتخب سيكون له وضع آخر مختلف، ولن يشابه الرئيس أوباما برغم التسليم بأن الرئيس قد يعمد لاستشارة الرئيس أوباما في كثير من الأمور، وهو أمر معتاد في السياسة الأمريكية طوال فترات الرؤساء العشرة السابقين .
إن التوقع بأن الرئيس الأمريكي سيتجه بالفعل لعدم الانخراط في قضايا السياسة الخارجية أمر طبيعي، خاصة أن الرئيس ليست لديه نزعة التدخل من بعد، والابتعاد عن بؤر الأزمات ليس في الشرق الأوسط، وإنما في العالم كله، خاصة أن المنافسين الحاليين للسياسة الأمريكية ليسوا في مسعى لتقسيم العالم، أو إدارة مناطق النفوذ بين القوى الكبرى، وأمريكا على رأس هذا النظام الدولي الراهن بصرف النظر عن شكل أو جوهر هذا النظام الذي لم يعد واحدا بصورة مطلقة، وإنما هناك أطراف أخرى مثل الصين والاتحاد الأوروبي رغم التسليم بقيادة الولايات المتحدة للعالم على الأقل في المدى الطويل جدا، وإنما دول أخرى في مستويات النظام السياسية أو الاقتصادية أو الاستراتيجية .
وبالتالي فإن استمرار الولايات المتحدة في أداء دورها السياسي العالمي لن يتغير مع الرئيس جو بايدن بصورة حقيقية، خاصة أن الداخل الأمريكي خاصة الحزبين الديمقراطي والجمهوري يتفقان علي سياسة العودة إلى الداخل، وعدم الخروج للعالم عبر رؤية تدخلية في أي منطقة من العالم، بعد الأزمات التي شهدتها الولايات المتحدة، وكلفتها الكثير من التبعات الكبرى، وبالتالي فإن ما تطرحه نخبة واشنطن الكبرى لن يجد صدى في الإدارة الأمريكية، برغم التأثير الكبير والمباشر لهذه النخبة على توجهات السياسة الأمريكية في الفترة المقبلة، كما ستكون هذه السياسة محل جدال سياسي حقيقي، خاصة وأن أهم التحديات الحقيقية التي ستواجه الرئيس جو بايدن هي الأزمات الدولية، وتحديات كورونا والتعامل معه، واستمرار الصراع الصيني الأمريكي، وسعي الاتحاد الأوروبي للعب دور جديد في ظل مخطط إحياء دور حلف الناتو، وهو أمر سيكون مطروحا بقوة في الفترة المقبلة، ولعلنا نتذكر كيف دفعت الولايات المتحدة ثمنا سياسيا حقيقيا في مراحل معينة قبل ترؤسها النظام الدولي، عندما تركت الأنظمة الأوتوقراطية تعمل وتنتشر إلى حين خرجت الأمة الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية لتعيد ترتيب العالم أجمع، وتبني مؤسسات التمويل والكيانات المالية والاقتصادية، والتي هيمنت على مقاليد العالم ووجهت سياساته حتى الآن .
في كل الأحوال لن يكون هناك خروج عن السياسات الأمريكية الحالية إلا بعد ترقب وتحسب حقيقي، في ظل مخاوف التغيير التي قد تقدم عليها السياسات الأمريكية ليس في الشرق الأوسط، وإنما في جنوب شرق آسيا وفي أوروبا، ومع دول أمريكا اللاتينية، وبالتالي فإن السياسة الأمريكية ستحكمها توازنات صعبة ومعادلات ليست صفرية خاصة وأن الردع الأمريكي السياسي والاستراتيجي هو الذي سيكون مطروحا بقوة كبديل عن المطالبات بمزيد من الانخراط في قضايا إقليمية ودولية، خاصة أن هناك توجها بأن تستخدم الإدارة الأمريكية الجديدة القوة – رغم كل ما يقال ويتردد – لاستعادة مكانة الولايات المتحدة الكبيرة والقوية، أي أنه لا يوجد ما يمنع أمريكا من التوجه العسكري عند الضرورة لتأكيد حضورها السياسي والاستراتيجي الحقيقي، وبهدف ردع أي قوة يمكن أن تمثل بتحركاتها قلقا على المصالح الأمريكية العليا، خاصة وأن الإدارة الأمريكية ستعمل على تثبيت الرواية الحقيقية لكسب المصالح بطرق وأنماط مختلفة، وهو ما قد يفعل المسار الأمريكي للتحرك تجاه آسيا، ولعب دور حقيقي وتفاعلي في توجيه اتجاهات العلاقات العربية الإسرائيلية في الفترة المقبلة، وهو ما قد يعجل بنمط جديد من التفاعلات الحقيقية والتي ستشمل كافة الأطراف، وهو ما يؤكد على أن الإدارة الأمريكية ستعيد بناء المنظمات العالمية، وتصحيح مسارات المؤسسات العالمية والتي عمل الرئيس ترامب على تنحية دورها ودخل في صدامات مع أغلبها بما فيها الأمم المتحدة ذاتها .
ستعيد الإدارة الأمريكية الجديدة الأمور إلى نصابها مع تفضيل خياراتها الأوروبية على الآسيوية، وإعطاء دور حقيقي لشراكات سياسية جديدة وفقا لقاعدة سياسية واستراتيجية، وهو ما سيدفع الرئيس الأمريكي لإعادة توزيع المساعدات والمعونات لدول العالم مع قيامه بتقسيم العالم لدول حليفة وأخرى تربطها علاقات جيدة مع الإدارة الأمريكية، وأخيرا الدول المعادية للسياسات الأمريكية، والتي ستعمل الإدارة الأمريكية على دفعها لتكون في الصف الأمريكي، وما سينطبق على كوبا لن ينطبق على كوريا الشمالية، وبالضرورة على إيران بصرف النظر عما سيجري بشِأن مستقبل الاتفاق النووي، وإعادة التفاوض بشأنه مجددا .
الخلاصة أنه من غير المتوقع أن تتم تغييرات مفصلية في إدارة الرئيس بايدن بالفعل، وإنما مراجعات في إطار تقييمات يمكن أن تكون مطروحة على مستويات مختلفة، وقد يكون لها تكلفتها العالية، ومع ذلك ستمضي الإدارة الأمريكية في مسارها المخطط له عبر فريقها السياسي سواء في البيت الأبيض أو المؤسسات الأخرى الضابطة لحركة المجتمع المختلفة، فهذه هي السياسة الأمريكية بصرف النظر عن القاطن في البيت الأبيض ديمقراطيا كان أم جمهوريا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة