في قراءة كورونيّة -إن جاز التعبير -يمكننا تحليل هذا الواقع المؤلم ضمن معطيات الظروف الوبائية الحالية التي يعانيها الملف السوري.
لم تبقَ عثرةٌ إلا وتمثلت في طريق الحل السياسي للملف السوري العالق على طاولات التفاوض المختلفة الداخلية والخارجية منذ ما يقارب عقدا من الزمن، وتراوحت هذه العقبات بين كينونتها السياسية والعسكرية وتضارب المصالح الدولية، بل وحتى الطبيعية، فقد علّقت جلسات اللجنة الدستورية السورية التي تمثل الأمل وطوق النجاة للسوريين الذين مازالوا يعانون ويلات الصراع طويل الأمد، فبعد وصول الوفود المشاركة في الجولة الثالثة من أعمال اللجنة الدستورية، تبين إصابة ثلاثة أعضاء من الوفود القادمة من سوريا بفايروس كورونا، مما اضطر الأمم المتحدة إلى تعليق الجلسات التي كانت مقررة قبل عدة أيّام، ليحمل السوريون الذين سئموا الحرب والصراع الأمر على سبيل السخرية السوداء على وسائل التواصل الاجتماعي بنقل الإصابة بكورونا – مجازاً – من الوفود المشاركة إلى الدستور السوري، وإن كان الأمر على سبيل التندّر والنقد الساخر إلا أنّ هذا لا يجانب الصواب في دلالته على الواقع المتمثل أمام أعينهم، ففي قراءة كورونيّة - إن جاز التعبير - يمكننا تحليل هذا الواقع المؤلم ضمن معطيات الظروف الوبائية الحالية التي يعانيها الملف السوري والسوريين، بدءاً من عطاس المواقف إلى سخونة الأروقة السياسية وانتهاءً بضيق التنفس.
أولاً: عطاس المواقف: على الرغم من أنّ المواقف الدولية لم تأتِ بجديد على واقع الحال المرير الذي يعيشه السوري منذ سنوات طويلة سوى بنقله من ملعب إلى ملعبٍ آخر وكأنه يدور في حلقةٍ مفرغة، إلا أنّ ما يميّز المواقف الدولية في هذه المرحلة الحساسة من الواقع السوري ذي الاقتصاد المتدهور والبلاد المقسمة كمحاصصة بين اللاعبين الدوليين، هو أنّ هذه المواقف لا تخلو من الارتياب في كونها كسابقتها طيلة السنوات الماضية لا تصلح إلا للاستهلاك السياسي على شكل خطابات، أم أنها تحمل معطيات جديدة؟، معطيات لا يثق بها السوري لأنه يعلم بجوهر قيامها على مراعاة مصلحة المصرِّح قبل مصلحة المصرَّح له، كموقف الولايات المتحدة التي تطلب على لسان مبعوثها "جيمس جيفري" من وفد المعارضة بأنْ لا يلتفت إلى الخلف، وأنْ يضع نصبَ عينيه التأسيس لمرحلة دستورية سورية تخلص السوريين من معاناتهم، وموقف السفارة الأمريكية الداعية عبر حسابها على "تويتر" الرئيس السوري إلى الجدية والإيجابية وإنهاء معاناة المعتقلين، والتصريحات الروسية بشأن الجدية هذه المرة في التفاوض مع الولايات المتحدة، كل هذه المواقف يحتار السوريون فيها كحيرتهم من عاطسٍ في الشارع أهو عطاس بسبب الانفلونزا العادية أم عطاسٌ خطير لمصاب بكورونا؟، في الحقيقة مهما يكن من الأمر وعلى الرغم من الآمال بأن تنجح المساعي بتخليص السوريين من عذاباتهم، إلا أن عطاس المواقف هذا صار مجرد بروتوكولات وروتين متبع في كل جولة تفاوضية، وإن آتت أكلها فإنها ستكون على حساب السوريين أكثر من كونها لحسابهم، ما لم يتقوها بكمامة الوحدة السياسية السورية التي لا هدف لها غير سوريا والسوريين.
ثانياً: سخونة الأروقة السياسية: تشهد الساحة السياسية المحيطة بالملف السوري حالة كحالة المصاب بفايروس كورونا من حيث تناوبها على الارتفاع المفاجئ للحرارة ومن ثم انخفاضها، فروسيا التي تصعد وتحشد على أبواب إدلب منذرةً إياها بحرب شرسة تعود إلى التريث، وتركيا التي تسيّر الأرتال العسكرية وترفع السواتر الترابية على تخوم الجبهة الإدلبية تعود لتعلن التوصل لتفاهم تركي أمريكي حول ملف "إدلب"، وموسكو التي تصرخ ليل نهار بأنّ التفاوض مع الولايات المتحدة حول الملف السوري لن يكون إلا ضمن الضوابط الروسية للخطوط الحمراء تعود وتعلن استعدادها للتفاوض الجاد مع "واشنطن"، كل هذا على وقع المناوشات والمطاردات والمماحكات من وقت لآخر بين الدوريات الروسية الأمريكية في الشمال السوري، والتجاوزات التركية وانتهاكها لأبسط البنى الأخلاقية للحروب في منطقة
"نبع السلام" من قطع للمياه ونهب للمحاصيل، كل هذه الأوضاع المرتبكة والمواقف المتباينة تحيط بها لقاءات دبلوماسية وسياسية بين كل هذه الأطراف في مؤتمرات سلسة ومصافحات حارة تشي بالانسجام التام فيما بينها، فعلى الرغم من التوتر فجأة والعودة إلى الهدوء فجأة إلا أنه لا يخفى على المتفحص أن هذا لا يعدو كونه حركات بروتوكولية في لعبة سياسية لا هدف لها إلا تأكيد المكتسبات بين اللاعبين، وضمان المحاصصة كلٌّ حسب مقتضيات مصلحته القائمة على سلب سوريا والسوريين حتى حصتهم في مياه الشرب.
ثالثاً: ضيق التنفس: لعل هذا هو العارض الأخطر والمميت إن لم يلقَ المريض العناية اللازمة، وهو الذي تسببه الكورونا السياسية على الساحة السورية إلا أنّه – وللأسف – لا يظهر إلا على السوريين الذين يعانون من واقع اقتصادي هو الأسوأ من نوعه عبر تاريخ سوريا، في ظل حصار اقتصادي وعقوبات أقل ما يمكن وصفها به بأنها قاهرة، في ظل التضخم الذي بلغ درجة من السوء حتى بات الموظف الحكومي - مثلاً – يتقاضى أجراً بمعدل دولار ونصف الدولار يومياً، بالإضافة إلى منعكسات الإجراءات الاحترازية في ما يخص "جائحة كورونا"، أما على الصعيد السياسي فالبلاد موزعة كمناطق نفوذ للقوات النظامية وأخرى للقوات الروسية في العاصمة والساحل، وفصائل إيرانية في الجنوب، وفصائل المعارضة والأتراك في الشمال، وقسد والولايات المتحدة في الشمال الشرقي، وتنظيم "داعش" الذي عاد ليشن هجماتٍ في البادية، وفوق كل هذا وذاك فقدان الأمن وانتشار الجريمة بسبب الانقسام والفقر، عدا عن غياب البنى التحتية، بل وحتى تعدد المناهج الدراسية تبعاً لكل منطقة ومن يسيطر عليها.
كل هذه الأوضاع والوقائع التي يعانيها السوري في أي منطقة من مناطق النفوذ الموزعة بين الأطراف كافة، لا تمثيل لها إلا بالوباء القاتل الذي يصارعه السوري منذ عقد كامل دون أي بصيص أمل في النفق المظلم، فشأن السوريين كشأن الجسد الواحد في ظل تعذر إيجاد اللقاح الناجع وعدم نفع المسكنات على مدار تلك الأعوام الطويلة، فليس لهم إلا مناعتهم الذاتية، ولا أمل لهم في النجاة إلا بتظافرهم وتوحدهم كجهازٍ مناعيٍّ عضويٍّ يدافع عن نفسه لقهر الفايروس المميت.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة