تتوزع اليوم سوريا بخيراتها ومواردها الاقتصادية ومواقعها الاستراتيجية بين أطرافٍ ثلاثة ضاربة عرض الحائط كل ما تشدقت به.
منذ اشتداد الأزمة في سوريا مطلع العام 2011 تعالت التصريحات الدولية متبنية آراء لتقييم الأوضاع واقتراح الحلول إلا أننا لم نسمع الصوت السوري السوري الذي يعلي المصلحة الوطنية السورية على كل اعتبار من الاعتبارات القائمة على الأرض، الأمر الذي أدى فيما بعد بالتشاورات والقرارات الدولية بعد عجز الحلول العسكرية ليس إلى غياب المصلحة السورية فقط بل إلى غياب الصوت السوري أصلاً حتى عن التمثيل الشكلي، فتمحورت الأوراق السياسية ودعوات التهدئة بين الأطراف السورية حول مراعاة المصالح الدولية بما يضمن لكل لاعب من اللاعبين الدوليين ضمان حصته وما يخدم أجنداته من كل قرار أو حتى مشروع قرار يُتخذ بشأن الملف السوري، لتتوزع اليوم سوريا بخيراتها ومواردها الاقتصادية ومواقعها الاستراتيجية بين أطرافٍ ثلاثة ضاربة عرض الحائط كل ما تشدقت به من دعوات الاستقرار لسوريا والمحافظة على وحدتها، وهذا ما يتضح من خلال ما كافأ به اللاعبون أنفسهم على حساب الدم السوري وقوت السوريين ليتقاسموه فيما بينهم بحسب حجم كل منهم كالآتي:
الولايات المتحدة الأمريكية: لم تدخل الولايات المتحدة الصراع السوري بصورة مباشرة فمنذ اليوم الأول والتصريحات الأمريكية تتمحور حول تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة بالملف السوري، إلا أنها كانت من خلال الضغط السياسي والاقتصادي تعمل على خلق التوازنات المناسبة بما يضمن المصلحة الأمريكية حتى قررت – بعد احتدام الصراع الدولي على سوريا – الدخول إلى سوريا تحت مظلة التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش" الإرهابي بدعمها لقوات "قسد" عسكرياً واستخباراتياً ولوجستياً التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة في الحرب البرية على التنظيم ليتطور التدخل الأمريكي إلى شكل من أشكال القواعد العسكرية الصغيرة، ثم وبعد أن قررت "واشنطن" بشكل مفاجئ الانسحاب من سوريا تحت ضغط الأتراك على الأكراد المدعومين أمريكياً لتعود أمريكا بعد أقل من 24 ساعة للعدول عن قرارها، مقررةً البقاء تحت ذريعة حماية المنشآت النفطية وحقول النفط شرق الفرات وفي حقيقة الأمر ما كان هذا العدول إلا لأنها أيقنت من أن روسيا ستستغل الفراغ الذي ستتركه "واشنطن" لتضع يدها على الموارد النفطية، وها هي أمريكا اليوم تعلن عن عزمها بناء مصفاتي نفط شرق الفرات في إشارة واضحة إلى طول البقاء الأمريكي وأنّ النفط هو حصة الولايات المتحدة من الكعكة السورية التي قاربت على النضج فيما يخص المكاسب الدولية.
روسيا: لم تتوانَ روسيا في دخول الساحة السورية معلنة وقوفها إلى جانب الحكومة وليس على صورة المساندة السياسية والدعم العسكري واللوجستي فحسب بل حتى أنها دخلت الميدان بشكل مباشر؛ ولكنها في المقابل لم تنتظر حتى نضوج ما يطبخ للسوريين من ملفات، إذ وضعت يدها مباشرة على الساحل السوري بإقامة قاعدة "حميميم" على الساحل بالإضافةِ إلى وضع يدها على الموانئ السورية في كلٍّ من اللاذقية وطرطوس، ولم تكتف بذلك بل عملت على بناء القوى العسكرية التي تدين لروسيا بالولاء المطلق مثل الفيلق الخامس، كما أطلقت يد الشرطة العسكرية الروسية على المناطق التي تسيطر عليها القوات الحكومية لتضمن تنفيذ أي اتفاق تتوافق عليه روسيا ميدانياً مع أي جهة دولية أو فصائل مدعومة من جهات دولية كما حدث في مناطق وقف التصعيد منذ عام 2015، فهذا التوغل الروسي في مفاصل الملف السوري هو الذي عزز الإرادة الأمريكية في عدم ترك فراغ آخر لروسيا التي استولت على الموانئ والمعابر وطرق التجارة بالإضافة إلى المؤسسات ولا سيما العسكرية.
تركيا: تركّز التدخل التركي على الساحة السورية بادئ الأمر على الدعم السياسي لفئات مخصوصة من المعارضة، ثم تحول بعد ذلك إلى دعم سري لجماعات بعينها وعلى الميدان السوري ككل من الجنوب إلى الشمال، تصريحات ودعم كاد يؤدي إلى صراع مباشر مع الروس، حتى أدركت تركيا حجم اللعبة الدولية فلعبت على ملف الدماء السورية بمقايضة الملفات السياسية والميدانية مع روسيا والولايات المتحدة، حتى استتب لها الأمر مع الجانب الروسي باقتصار النشاط التركي على المناطق الحدودية في الشمال السوري وتحديداً في إدلب وريف حلب، كما سعت "أنقرة" لاحقاً وبعد تخبطها في اللعب على الحبلين الروسي والأمريكي حتى انتزعت بصفقات سياسية مع الشركاء على الأرض ما تسميه "المنطقة الآمنة" بذريعة الحفاظ على الأمن القومي التركي وإعادة اللاجئين، لتنحسر هذه المقايضات عن إطلاق يد "تركيا" في الشمال السوري بما يضمن لها الاستيلاء على الموارد الزراعية من منطقة تعد سلة الغذاء السوري ولا سيما "القمح"، فسيطرت فيما بعد على ما هو أكثر من ذلك من خلال تحكمها بمصادر المياه سواء على الفرات الذي يروي ريف حلب والرقة ودير الزور، أو بوضع يدها على محطات المياه التي تغذي محافظة الحسكة بمياه الشرب لاستخدامها كورقة ضغط لاجتلاب المزيد من الموارد الزراعية من جهة وتمرير الأجندات السياسية بتجويع وتعطيش السوريين.
فضمن هذه المعادلة المجحفة المتخصصة بنهب الموارد السورية وترك السوريين بعد عقد من سيل الدماء بلا موارد ولا خيرات في محاصصة مقيتة مفادها أن الموانئ وطرق التجارة والغاز الساحلي لروسيا، وحقول النفط والموارد النفطية الأغزر في شرق الفرات للولايات المتحدة، فيما تأخذ تركيا القمح والمنتجات الزراعية مع وجودٍ على الأرض السورية بحجة الأمن القومي تخضع لها بموجبه سلة الغذاء السوري، ليبقى للسوريين الأسف على معادلةٍ استثنتهم من خيرات بلادهم كاستثنائهم من أي تشاور أو مؤتمر يعقد تحت مسمى "اجتماعات ومؤتمرات من أجل سوريا" بمشهد مضحكٍ مبكٍ لغياب السوريين عنها جملةً وتفصيلاً، مما يجعل المسمى الحقيقي لهذه الاجتماعات "اجتماعات ومؤتمراتٍ من أجل تقاسم سوريا" .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة