كورونا هدم الحدود الوطنية والقارية وشطب معاهدات التقسيم والتنظيم القائمة منذ قرون بين الدول والأمم، وأبطل مفعول منتجات الدمار الشامل
اجتياح فيروس كورنا المدوي لمعظم أصقاع المعمورة رفع الغشاوة عن أعين الكثير من أبناء جلدة الإنسان كل في موقعه وبيئته وواقعه وراهنه وما يأمله لمستقبله، فتح مجددا نافذة التأمل والتفكير حول مجمل قضاياه الوجودية، أعاد طرح الأسئلة ذات الطابع الجدلي حول علاقة الإنسان بالحضارة، كمفهوم إنساني، وحول إشكالية القيم الحضارية التي صنعها الإنسان وراكمها خلال مسيرته المتواصلة كفرضيات أساسية لخدمة الإنسان وجوهره ووجوده حاضرا ومستقبلا .
ربما لم يَدُرْ في خلد أي إنسان في عالمنا المعاصر أن يواجه جائحة وبائية مجددا بحجم كورونا تهدد وجوده وحياته بالفناء أو تحدث له كل هذا الرعب النابع من المجهول الذي يتربص به وتضعه بين أقدار ألطفها غامض، خاصة بعد كل ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية من تقدم علمي وتكنولوجي وتقني على مستويات العلوم كافة والطبية منها بشكل محدد؛ ظن إلى حد اليقين الراسخ أن مثل هذه الأوبئة الفتاكة صارت من الماضي السحيق وما عاد لها من وجود إلا في زوايا ذاكرة بعض الأمم .
وكان يعتقد أن المجهول المرعب متخفٍّ فقط، في حالته المعاصرة، بالأسلحة الفتاكة التي لا مقدرة لديه على مواجهتها أو التصدي لها أو إبطالها فاستسلم لواقع يقول إنه كإنسان ليس سوى ضحية حتمية في حال استخدامها من قبل هذا الطرف أو ذاك .
كورونا هدم الحدود الوطنية والقارية وشطب معاهدات التقسيم والتنظيم القائمة منذ قرون بين الدول والأمم، وأبطل مفعول منتجات الدمار الشامل المكدسة في أقبية كثير من الدول حتى إن بعضها -أي الدول- بدت مرتبكة حائرة أمام عدو لا حيلة لديها لمواجهته أو دحره ولو جندت كل ما حازته من فنون القتال ومن الأسلحة بمختلف صنوفها العسكرية التقليدية منها وغير التقليدية، الصاروخية منها والطائرات والقنابل.
كورونا هدم الحدود الوطنية والقارية وشطب معاهدات التقسيم والتنظيم القائمة منذ قرون بين الدول والأمم، أبطل مفعول منتجات الدمار الشامل المكدسة في أقبية كثير من الدول حتى إن بعضها -أي الدول- بدت مرتبكة حائرة أمام عدو لا حيلة لديها لمواجهته أو دحره.
بل صارت بلا معنى عند جميع بني البشر مقارنة مع المارد اللامرئي الذي وحد لهاث القلوب المتضرعة للسماوات بلغة جميع الأديان، أوقفَ الناسَ بلا مقامات أو رتب صفا واحدا، ضرب الخمولُ والشلل معارجَ الكون ومنابعه الاقتصادية والصناعية والطبيعية، ولا جدوى من أي شيء قبل إلقاء القبض على هذا المارد المتنكر على شكل تاج والإجهاز عليه، وحده الإنسان، كجوهر وليس كفرد، وتقدم على ما سواه في ساحة المنازلة لهذا الكورونا التاجي سواء بدافع حب البقاء والتمسك بالحياة كما هو الحال عند شعوب الأرض قاطبة.
أو بدافع تطويع الطبيعة ومواجهة قهرها وجورها عبر العمل ليل نهار لابتكار مصل مضاد أو علاج للمارد الكوروني على أمل تحويل المحنة البشرية من حالة معاناة طارئة إلى فرصة جديدة من فرص تفوق الإنسان وإثبات قدرته على ترويض الشرور وإحكام السيطرة عليها، حتى وإن أتت بغتة من أي مصدر؛ مجهولا كان أم معلوما.. ظل الإنسان، كجوهر، منذ انبلاج فجر البشرية الأول، محور الوجود ومعيار الأشياء جميعها .
وما الحضارة إلا انعكاس قيمي وأخلاقي وسلوكي لروح هذا الجوهر في تمثله للأشياء وفي دأبه لمقارعة الطبيعة وتحويلها كلما سنحت الفرصة إلى أداة بيده لأْنْسَنَتها، أي وضعها في خدمة الإنسان ولمصلحته وإخضاع ظواهرها لسيطرته بدلا من أن تكون قاهرة له ومسيطرة عليه، حدث هذا في مفاصل تاريخ البشرية جميعها خاصة حين تتحدى الطبيعة الوجود الإنساني المحدود الإمكانية لكنه لا يلبث أن يقارعها ويتغلب على بعض شرورها تدريجيا، ولم تُسجل أي هزيمة للإنسان في تلك المنازلات وإلا لما تمكّن من البقاء والاستمرار .
وليس من المنطق القول إن ما تعيشه البشرية من رقي وتقدم ورفاهية وترف في وقتنا الراهن كمظهر من مظاهر الحضارة المعاصرة ما هو إلا حقبة عابرة لا تمتلك مقومات وأسس الاستمرار، أو أنها لم تأت إلا بالمتاعب للإنسان وأنها أضافت تعقيدات جمة إلى حياته ويومياته وجوهره, ولكن بالمقابل ليس من الحصافة الادعاء بأن مكاسب الإنسان الحضارية تلك كانت خالية من التوحش ضد أبناء جلدته وضد الطبيعة وضد نفسه بالمحصلة.
وهو ما جعلها تفعل فعلها وتؤثر في جوهر الإنسان، وأدت به إلى الانحراف أحيانا كثيرة حين تم توظيف الكثير من اختراعاته، التي كان يفترض أن تكون في خدمته، لتحقيق غايات وأهداف أبسط ما يمكن وصفها بالمدمرة لوجود الإنسان في بعض القطاعات، وهنا تبرز أهمية مجموعة النظم الأخلاقية كشريان أساسي لتغذية العلاقة الجدلية بين الإنسان والحضارة والذي لا مناص من توفره لإبقاء الإنسان، كجوهر، مؤثرا في سيرورة المنتج الحضاري وفاعلا فيه .
ويبدو أن المارد الكوروني وضع البشرية على أعتاب منعطف لم يكن في حسابات أحد لجهة تأثيره على الإنسان أولا، راهنا ومستقبلا، وعلى مظاهر الحضارة المعاصرة برمتها ثانيا، فحجر الرحى في دورة الحياة هو الإنسان، وكورونا أبطأ دورة الحياة في أماكن وأوقفها في أماكن أخرى، وأبقى تهديده لحياة الإنسان مشرعا، لكن منطق التاريخ يؤكد أن الحضارة تتجدد كلما كانت التحديات التي تواجه الإنسان شديدة الصعوبة، والمُلحّ اليوم هو ضرورة وضع الإنسان في سلم أولويات الاهتمام وتحصينه كونه معيار الوجود ومعيار الأشياء جميعها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة