يأتي دور المبدع في التعامل مع الكوارث ومن ضمنها "الأوبئة" في تلك الأحوال
تحدثت في مقال سابق عن "فخاخ المؤامرة ودراسات المستقبل" انطلاقا من فيروس "كورونا "وأشرت فيه إلى أن أصحاب نظرية المؤامرة استدعوا الفن قهرا ليثبتوا من خلاله صدق رؤيتهم بأن كورونا مؤامرة، وأكدت أن ذلك يعد ليّاً لعنق الفن لإثبات وهم ليس أكثر، وأن الفن أرقى وأعمق من ذلك.
وأن الأعمال الفنية التي تنبأت بأحداث مستقبلية أثبتت الأيام صدقها ما هي إلا جزء من علم غائب لدينا هنا في العالم العربي وهو "علم دراسات المستقبل".
في هذا المقال أكمل رصد تشابكات الفن والأدب مع عقلية العالم.
فعقلية الأديب والفنان تتحرك من ثابت مهم وهو الخيال، والخيال مفتوح ليس عليه ضابط يحلق صاحبه في فضاء التخيل حيثما شاء، وبالتالي يكون أحيانا مادة خصبة لعقل العالم، فخيال الفنان محرض لعقلية العالم.
يأتي دور المبدع في التعامل مع الكوارث ومن ضمنها "الأوبئة" في تلك الأحوال ومن رصد الأعمال الأدبية العربية التي قدمت في العقود الفائتة يتضح أنه توظيف وتناول "المابعد" أي بعد نهاية الكارثة يحاول المبدع توظيفها في سياق بناء الدلالات التي تثبت فكرته.
وهنا سأستدل بمسرحية "إنسان روسوم الآلي" للتشيكي "كارل كيبك" عام 1921 هي أول مسرحية تستخدم لفظ "روبوت" على الإطلاق الذي عرفنا أن كلمة روبوت مُشتقة من كلمة تشيكية بمعنى العبيد.
إذا الأديب "كارل كيبك" كان بمثابة المحرض لعلماء الذين حولوا خياله إلى حقيقة وبدأوا فعلا في صناعة الإنسان الآلي.
أشير هنا إلى رواية أخرى للأمريكي "فيليب ديك" بعنوان "هل يحلم الأندرويد بخرافة كهربائية؟"
وفيها يفتح لخياله العنان لتوظيف فكرة الإنسان الآلي لينتهي في تلك الرواية إلى أن هناك صعوبة في التفريق بين الإنسان الآلي والإنسان الحقيقي بعدما اختلطا في الحياة وفي المهام والعمل.
تم تحويل هذه الرواية إلى فيلم سينمائي "1982" للمخرج ريدلي سكوت بعنوان "مقتفو الأثر".
*إذا التيمة الثابتة بين عقلية الأديب والفنان والعالم هي تيمة المستقبل من الأقدر على الغوص في جنباته والإيغال فيه؟
من هنا يجيء الاستغراب الذي يصل إلى حد إحالته إلى نظرية المؤامرة.
* الفن في العالم العربي لم يكن بعيدا عن فكرة المستقبل، فهناك أعمال فنية تناولت أحداثا أثبت الواقع صدقها، وسأشير هنا إلى عمل سينمائي وإلى قصيدة، أما لعمل السينمائي فهو فيلم "طيور الظلام" إخراج شريف عرفة وقصة وكتابة "وحيد حامد" بطولة عادل إمام ولطفي الخولي وأحمد راتب، الذي قدم عام 1995 وفيه تنبأ بانتشار الجماعات الإسلامية وزيادة سطوتها خاصة الإخوان، وأن كورة الخلاف ستخرج عن حدود السجن والدولة وستدمر المجتمع وهذا ما حدث بعد ذلك بالضبط.
أما القصيدة فهي "قصيدة لا تصالح" للشاعر الكبير "أمل دنقل" التي ارتبطت في أذهان الجميع بتوقيع اتفاقية السلام مع الإسرائيليين وأن أمل دنقل كتبها للسادات.. الحقيقة عكس ذلك تماما، هذه القصيدة كتبت ونشرت قبل أن يوقع السادات الاتفاقية أو حتى يفكر فيها، فقد نشرها أمل دنقل أول مرة في نوفمبر 1976 في مجلة آفاق عربية في بغداد، وكتبها عن حرب البسوس التي استمرت 40 عاما، وتحديدا حين رفض كُليب أي دية للصلح.
وهنا أتحدث عن نقطتين الأولى عن رؤية الفنان حينما تكون خالصة وتتخطى الموهبة إلى النبوءة، وهذا حدث في مرات كثيرة في عالمنا العربي، لأن الفنان هنا يتحرك منفردا ليس وراءه مؤسسة أو معاهد دراسات.
ولو طلب ذلك لن يزيده أحد بذلك، فوحيد حامد حين كتب "طيور الظلام" لا أتخيل أن هناك مركز أبحاث متخصصا في دراسة جماعات الإسلام السياسي زوده بتطور ومسار هذه الجماعات التي تقول إنهم سينتشرون بل سيتولون الحكم كما حدث في عهد مرسي في مصر مثلا.
المبدعون الحقيقيون في عالمنا العربي يعتمدون على مجهوداتهم الذاتية، وهنا سأشير إلى عمل أخذ تأويلات كثيرة، مسرحية "سكة السلامة" لمؤلفها "سعد الدين وهبة" التي قدمت أول مرة عام 1964، وأخرجها سعد أردش، من بطولة سميحة أيوب.
هذه المسرحية تحكي قصة "سائق أتوبيس" يدعي أنه يعرف القيادة ويعرف الطرق ثم يأخذ مجموعة من الركاب في رحلة وفي النهاية يكتشفون أنهم تاهوا في الصحراء القاتلة وكل منهم راح يواجه الموت طبعا بعد ثلاثة أعوام وقعت هزيمة 1967 والكل راح يربط بين أحداث تلك المسرحية وسائق الأتوبيس الذي لا يعرف القيادة وتوه الركاب في الصحراء.
*في ظل هذا يأتي دور المبدع في التعامل مع الكوارث ومن ضمنها "الأوبئة" في تلك الأحوال ومن رصد الأعمال الأدبية العربية التي قدمت في العقود الفائتة يتضح أنه توظيف وتناول "المابعد" أي بعد نهاية الكارثة يحاول المبدع توظيفها في سياق بناء الدلالات التي تثبت فكرته.
وهذا لم يكن قاصرا على الأديب بالعربي فقط وإنما تناولها الأديب الغربي "البير كامو"، حين كتب الطاعون أو "ماركيز" حينما كتب الحب في زمن الكوليرا أو خوسيه ساراماجو حينما كتب العمى، كلهم تناولوا تلك الأوبئة في سياق درامي خاص بهم.
هكذا فعل مثلا الأديب المصري سعد مكاوي في رائعته "السائرون نياما" حين قسمها إلى ثلاثة أجزاء "الطاووس - الطاعون - الطاحون" هو أراد أن يقول إن انتشار الأوبئة كانت سببا لثورة الفلاحين والمقهورين ضد الحاكم المملوكي.
وهكذا تجيء رواية "اليوم السادس" للكاتبة ذات الأصول المصرية "أندريه شديد" التي نشرتها 1960 وكانت تحكي عن انتشار الكوليرا الذي ضرب مصر 1947 ومحاولة الجدة إخفاء حفيدها بعيدا عن مواقع الحجر ليقضي ستة أيام.. أرادت الكاتبة أن تشير إلى أن اليوم السادس كان عتبة بداية حياة جديدة.
طبعا الرواية حولها يوسف شاهين إلى فيلم سينمائي شهير حمل العنوان نفسه عام 1986 قامت ببطولته الفنانة العالمية "دليدا" ومحسن محي الدين وعدد كبير من النجوم.
*إذا جميع الكوارث التي تضرب البشرية من أوبئة أو زلازل أو سيول أو غيرها هي دائما تكون مادة خصبة لعقلية الفنان لإعادة تدويرها دراميا بما يولد دلالات كثيرة تساعد في فهم الكون والحياة.
الكوارث والأوبئة هي لحظات توقف للحياة عن سرعتها المعتادة، ما يسمح لعقلية الفنان والأديب في إعادة التفكير فيما قد يمتد من آثارها إلى المستقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة