سياسيا تنسب للوباء معجزة زرع تحالفات دولية جديدة في العالم. المحدد الأساسي لهذه التحالفات هو التعاون والمساعدة.
العالم بعد وباء كورونا لن يكون كما قبله. ربما تنطوي هذه العبارة على مبالغة في بعض جوانبها. ولكنها لا تنفي حقيقة أن الجائحة جاءت بمعجزات لم يتوقعها أحد. يكفي أنها أزاحت عن كاهل الأرض كميات مهولة من الانبعاثات الكربونية السامة دون قمم وسياسات وميزانيات واتفاقيات أو أدنى مساهمة من الإنسان. ويكفي أيضا أنها فرضت على البشر إعادة النظر في سلوكياتهم اليومية. وأجبرت الدول على مراجعة قوانينها وسياساتها الداخلية والخارجية.
يبدو الأثر البيئي هو الجانب المشرق الوحيد للوباء حتى الآن. ولكنه قد يظلم لاحقا عندما يبدأ العالم بمواجهة نتائج هذه المبيدات التي أطلقت في الأرض والسماء لمكافحة كورونا. ويبحث عن أماكن لدفن المخلفات الطبية للجائحة التي لا يبدو أنها ستنتهي قريبا. إضافة إلى معالجة من سيتداعون للمستشفيات لاحقا بعدما تخرشت أجهزتهم التنفسية بالمعقمات التي طاردوا بها الفيروس على الأسطح التي تحيط بهم، بدءا من ملابسهم الداخلية.
مطاردة الفيروس في كل مكان تحولت إلى عصاب قلب حياتنا رأسا على عقب. ولأن الخلاص الوحيد يكمن في لقاح تنتظره البشرية بأكملها. أبحر كثيرون بأحلامهم بحثا عن العلاج. والمعجزة الجديدة لكورونا كانت في أن النتائج وصلت إلى الحالمين عبر شخصيات تاريخية معروفة. غالبية الوصفات تشمل موادّ نستخدمها في مواجهة حالات البرد والزكام العادية. وبالتالي لا ضير من تجربتها على جائحة تتشابه مع هذه الحالات في أعراضها العامة. ولكن قلة من علاجات الأحلام تنطوي على تراكيب قد تجر أوبئة أخرى بدلا من أن تعالج كورونا.
سياسيا تنسب للوباء معجزة زرع تحالفات دولية جديدة في العالم. المحدد الأساسي لهذه التحالفات هو التعاون والمساعدة والعمل المشترك لتجاوز أزمة الجائحة. وهو ما قد يجعل حليف الأمس عدو الغد والعكس صحيح.
الترويج للعلاجات غير مثبتة الجدوى علميا، واحد من ضروب الخداع الذي انتشر بشكل مهول في زمن كورونا. كذلك انتشرت الشائعات. وتحول نصف البشر إلى أطباء متخصصين بالفيروسات. لا يسجل ذلك في قائمة معجزات الوباء إلا من باب إثباته بشكل قاطع تفوق وسائل التواصل الاجتماعي على الإعلام التقليدي بأشكاله كافة في التأثير على البشر. وإثباته أيضا أن هذه الوسائل قد تجاوزت أغراضها الأساسية بمراحل، وباتت ترهق عقولنا بسطحية تحتاج لدراسات معمقة وحلول جذرية، وإلا ستؤثر على جيناتنا مستقبلا.
في معجزات كورونا أيضا تستوقفك دعوات الرأسماليين للعودة إلى قوانين التأميم ودفع الحكومات نحو رعاية مؤسسات القطاع الخاص والعام على السواء. تراجع أرباب هذا النظام عن المطالبة بحرية القطاع الخاص في ضبط اتجاهات السوق وتصويب أخطائها عبر المنافسة ومعادلات العرض والطلب. وباتوا يؤمنون اليوم بضرورة وجود يد عليا للدولة تدير عجلة الاقتصاد في البلاد، وتشرف على مسارات التجارة والصناعة وغيرهما من قطاعات الإنتاج.
سياسيا تنسب للوباء معجزة زرع تحالفات دولية جديدة في العالم. المحدد الأساسي لهذه التحالفات هو التعاون والمساعدة والعمل المشترك لتجاوز أزمة الجائحة. وهو ما قد يجعل حليف الأمس عدو الغد والعكس صحيح. يبدو الأمر واضحا جدا على الأقل في الدول الأوروبية التي أغلقت الحدود فيما بينها، وتخلت عن بعضها بعضا على مبدأ "اللهم نفسي" في احتواء الوباء. وهو مبدأ جعل الروس والصينيين أقرب للإيطاليين والإسبان من الألمان والفرنسيين.
في معجزات السياسة أيضا يحسب لكورونا التبشير بجدوى الأنظمة الشمولية التي نجحت بمحاصرة الوباء وسجنه. بينما فشلت الديمقراطية حتى بإقناع سكان دول الغرب بالبقاء في منازلهم طوعا. جلب كورونا العار لدول البرلمانات والحكومات المنتخبة لسببين؛ الأول أنها راحت تبحث عن حلول للكارثة بعيدا عن إغلاق المدن والمناطق واعتقال البشر في منازلهم. والثاني أنها باحت بأولوية معالجة الشباب قبل كبار السن، وفضلت المناعة على المعالجة.
ويحتسب لكورونا إلغاؤه كل أشكال التحيات التي عرفتها البشرية عبر تاريخها. لتظهر أنواع جديدة ربما تتحول في المستقبل إلى أرقى معايير الإتيكيت في التواصل المباشر بين البشر. كذلك اقتحم الوباء بسرعة البرق مجالات الثقافة والفنون والإبداع في حياتنا. فلحنت وأنشدت له الأغاني وكتبت به المقالات والقصص. أصبح لكورونا اليوم مفرداته الخاصة في اللغة، وبدأ يتشكل له نوع جديد من الأدب ربما تجتاح رواياته المكتبات قريبا، تحت اسم أدب الأوبئة.
في علوم الاجتماع أيضا تسجل للوباء معجزة إعادة البشر إلى المربع الأول في حياتهم وهو المنزل. ومهما كانت هذه العودة قصيرة زمنيا، وسواء كانت طوعا أو إكراها، فإنها ستؤثر على أنماطنا الفكرية مستقبلا. وستحدث تحولا ملحوظا في توجهاتنا وسلوكياتنا الشرائية والترفيهية والمهنية. لقد غير الوباء من عاداتنا الغذائية والصحية والاجتماعية. كما فتح الباب أمام اهتمامات وهويات جديدة جاءت من وحي ملازمة المنزل والعجز عن فعل ما اعتدنا عليه خارجا.
في السياق ذاته تستمر معجزات الوباء لتفتح أمامنا آفاق التجارة والعمل والتعليم عن بعد على مصراعيها. وتبث الروح في تخصصات ومهن كانت على وشك الاندثار، أو تقبع في ذيل اهتمامات الشباب. لقد أغلق كورونا الحدود الجغرافية بين الدول، ولكنه فتح الحدود الافتراضية أمامنا إلى مستويات غير مسبوقة. فبات المستحيل في حياتنا العملية أمرا ممكنا ومتاحا عبر الإنترنت.
في نهاية المطاف، لا يوجد ما يثبت الإيجابية أو السلبية المطلقة لمعجزات كورونا. ولكن ذلك لا يلغي حقيقة وجودها أو يدحض فرضيات تأثيرها على حياتنا حتى بعد احتواء الوباء والوصول لعلاج حقيقي له. الحياة في زمن كورونا ستبقى علامة فارقة في تاريخ البشرية. وتداعياتها ستستمر لعقود طويلة وتطول أضعافا مضاعفة من عدد هؤلاء الذين أصيبوا بالوباء حول العالم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة