قبل نحو أسبوعين تقريبا، تحدث الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن عن ضرورة الاستعداد ماليا لمواجهة الوباء القادم.
والأمر نفسه كان قد أشار إليه الملياردير الأمريكي بيل جيتس، تصريحا لا تلميحا، وضمّنه كتابه الجديد، الأمر الذي يستدعي منا التساؤل: "هل نحن أمام تنبؤات تسعى لتحقيق ذاتها بذاتها، أي هل هناك من يدير دفة الأحداث الدولية لظهور أوبئة جديدة تغير شكل العالم مرة أخرى؟
الجواب لا يمكن أن يمضي بعيدًا عن التغيرات الجذرية، التي تركتها الجائحة الأخيرة، والتي أفرزت عالما مرتبكا، وأظهرت الكثير من الخبايا الكامنة تحت سطح العلاقات الدولية.
في هذا التوقيت، وما بين جائحة كارثية لا يعرف أحد كيف ظهرت، ولا إلى أين ستمضي، وبين توقعات مرعبة، يخرج علينا الباحث والإعلامي الإماراتي يوسف جمعة الحداد بكتابه المتميز والمُعنون بـ"كورونا.. صراع المصالح والنفوذ"، والذي يستهله بعلامة تساؤل مثيرة للتفكير: "هل استوعب العالم بقواه الكبرى ومنظماته الأممية والدولية دروس كورونا، الذي حصد، ولا يزال يحصد، أرواح الملايين من البشر؟
تبدو طريقة المؤلف في طرح الأسئلة خلاقة ونموذجية، لا سيما أنه، كما تعلّمنا الفلسفة، تبقى التساؤلات أهم من الأجوبة، إذ الأولى تأخذنا في مسارات البحث الواسعة، بينما الأخيرة تضعنا أمام رؤى محدودة.
يضعنا "الحداد" أمام كثير من الحقائق في كتابه، وفي مقدمها أن الوباء قد أعاد صياغة كثير من نظريات التنمية والأمن والدفاع في العالم، ولم تعد القوة العسكرية هي أساس القوة الشاملة للدولة، باعتبارها تمثل الرادع للأعداء، والضامن للمكانة والنفوذ في النظام الدولي، لا سيما بعدما انكشفت هشاشة منظومة الرعاية الصحية والاجتماعية في هذه الدول وباتت عاجزة عن توفير الأدوات الصحية لمواطنيها.
صفحات الكتاب تنطق بما ذهب إليه البروفيسور الأمريكي جيمس ناي، وفكرة القوة الناعمة، في مواجهة القوة الخشنة، وربما القراءة المعمقة للباحث الإماراتي، صاحب هذا العمل، تضعنا أمام منظومة أخرى من منظومات القوة العالمية المحدثة، والتي باتت تُعرف باسم "القوة الذكية"، وهي مزيج من الخشنة والناعمة معًا.
يقدم لنا هذا العمل الفكري رؤية عن جدلية العلاقة بين ظهور فيروس كورونا وبين حالة الحرب الباردة الجديدة، التي تعم العالم ولا شك في العقد الأخير، والتي يخشى البعض من أن تتحول إلى حرب كونية ساخنة، من جراء صراع المصالح والنفوذ.
أفسح الفيروس الشائه المجال لتصعيد المواجهة الباردة بين القطب الأمريكي القائم، شبه منفردا بمقدرات العالم، وبين الصين، القطب القادم ولا شك كمنافس للولايات المتحدة.
تُظهر صفحات الكتاب بُعدًا مهمًّا في سياق هذه الحرب المتجددة مرة أخرى بعد ثلاثة عقود من الهدنة، ذلك الموصول بالأدوات والآليات الجديدة في الصراع الأممي، من ميكانيزمات اقتصادية، وتبادلات تجارية، وتجارب تكنولوجية ورقمية، وتجهيزات صحية، ولذا يرى المؤلف أنها "حرب أكثر تعقيدًا من نظيرتها في منتصف القرن الفائت"، والتي تمترست وراء التسلح والعسكرة في شكلها التقليدي.
ولعل من أنفع وأرفع فصول الكتاب، ذاك الذي يستعرض خلاله الكاتب تجارب دول العالم في مواجهة الأزمة، وقد رأينا حالة الارتباك القصوى، التي ضربت الخليقة، بل إنه وفي بدايات تفشي الوباء تابعنا صحوة غير محمودة للقوميات في الغرب، فقد أغلقت الدول الحدود، وأقامت السدود، وقصرت مواردها على أنفسها، في شكل براجماتي وثيق ولصيق الصلة بالعالم الرأسمالي المتوحش، والذي سلّع الإنسان.
غير أنه، ومن حسن الطالع، وجود تجربة إنسانية في عالمنا العربي، شهد لها العالم، تجربة الإمارات العربية المتحدة، وإذا نسي العالم الكثير من التصريحات التي صدرت على هامش الجائحة، فإنه لا ينسى ما فاه به صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، في ذلك الوقت: "لا تشلون هم. نحن لا نعيش لأنفسنا فحسب، بل نعيش لنؤمن مستقبل أولادنا وأحفادنا.. المواطنون والمقيمون على هذه الأرض أمانة في أعناقنا وتأمين سلامتهم واجب".
يؤكد "الحداد" أن الإمارات قدمت نفسها باعتبارها "نموذجا عربيا مُلهما في إدارة أزمة وباء كورونا"، من خلال حزمة الإجراءات الاحترازية والوقائية، التي اتخذتها على الصُّعُد كافة، الصحية والاقتصادية والمجتمعية.
أظهرت الإمارات -والحديث لصاحب العمل- أنها تؤمن إيمانا مطلقا بفكرة الأخوة الإنسانية، ولهذا جاءت في مقدمة دول العالم، التي أسهمت في تقديم مساعدات لمنظمة الصحة العالمية، حيث قدمت نحو 85% من المساعدات الطبية إلى العديد من دول العالم، بغض النظر عن الجنسية أو اللغة أو المعتقد أو العِرق أو الخلافات السياسية.
يُظهر الكاتب أن الإمارات، وفي أوج الصراع على المصالح وخصومات ومعارك الأضداد على مربعات النفوذ العالمية، استطاعت من خلال مبادراتها الإنسانية أن تعيد الاعتبار لدور الأخلاق في العلاقات الدولية، وتؤكد بالفعل أنها قوة فاعلة ومؤثرة في إدارة الأزمات الدولية، التي تهدد الأمن الإنساني، وهذا لا شك سيعزز من مكانتها ووزنها السياسي في النظام الدولي في مرحلة ما بعد كورونا.
يضيق المسطّح المُتاح للكتابة عن سرد وعرض بقية فصول الكتاب، والتي تتناول قضايا مثل تصاعُد سباق التسلح العالمي، والتأثيرات التي تركها كورونا في عالم الصناعات الدفاعية والعسكرية، كما يفرد صفحاتٍ مهمةً وجوهرية حول دور الإعلام في مواجهة الأزمات، وكورونا كنموذج، عطفًا على مناقشة مستفيضة لموضوع شائك يتناول قصة لقاحات كورونا والبُعد الإنساني فيها.
يأمل "الحداد" عبر صفحات كتابه أن تكون البشرية قد وعت الدرس، لكن تصريحات "بايدن" و"جيتس" تجعلنا نتخوف من الأسوأ، الذي لم يأتِ بعد، وما من حل سوى "تعظيم إرادة التعاون الدولي"، كما يوصي الكاتب، والانحياز للإنسانية والتسامي فوق أي خلافات آنية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة