أخبار فيروس كورونا وتطوراته تظل تتصدر عناوين الصحف ونشرات الأخبار لأشهر عدة مقبلة
قد تظلّ أخبار فيروس كورونا وتطوراته، تتصدر عناوين الصحف ونشرات الأخبار لأشهر عدة مقبلة.. وقد يُعقد كثير من الندوات التوعوية لتلافي الإصابة به.. وقد يصل عدد ضحاياه بين قتلى ومصابين إلى أضعاف أضعاف ما هو عليه الآن.. وقد تنتقل درجة خطره من اللون البرتقالي إلى اللون الأحمر. كل هذا جائز ومتوقع لأسباب كثيرة ليس أقلها أن الصينيين منتشرون بأعداد كبيرة في بقاع العالم كلها، فضلاً عن أن عالمنا بات مرتبطاً بعضه ببعض بمجموعة لا حصر لها من السلاسل والعُرى العصيّة على الفكفكة.
يبرز دور المنابر الإعلامية المحترمة، وتوخيها كل الحذر عند التحدث عن هذا المرض بخطاب ملتبس قد يحمل أيَّ شكل من أشكال الرُهاب، بل تناوله بخطاب طافح بالتعاطف مع المصابين، وعلى أنه مرض كغيره ستصل المختبرات في نهاية المطاف إلى دواء له
وقد نوافق أو نشكك بطروحات أصحاب نظرية المؤامرة عن كورونا، فيما يكتبون عن أنه ذو أهداف سياسية أو اقتصادية أو حتى ديموغرافية. وقد نقبل الاستماع إلى المشعوذين عنه.. وقد نقرأ ثم نضحك على أرباب نظرية الانتقام الإلهي. ولكن سنصاب بصدمة قوية عندما يتحول هذا الفيروس إلى منصة لممارسة العنصرية ضد شعب أو عرق بشري، مهما كانت الأسباب والمبررات.
ما يؤسف حقاً أن كورونا، ومنذ الأيام الأولى لاننتشاره، صار كذلك؛ بيئة حاضنة بكل الشروط الملائمة لإعادة إنتاج "فيروس العنصرية" في كثير من دول العالم. كما كان بيئة حيوية لإنتاج "فيروس التنمّر" ضد أبناء العرق الأصفر.
ففي تقرير لشبكة إخبارية عالمية، نقلت إحدى السيدات الصينيات ما تعانيه بحرقة قائلة: "عندما كنت أستقلُ حافلة في باريس، سمعت إحدى الراكبات تهمس: بيننا امرأة صينية هنا، ستنقل لنا العدوى جميعاً.. وعلى مسؤولي مصلحة النقل إنزالها من الحافلة وعدم السماح لهؤلاء باستخدام حافلات النقل العام.. إنهم يحملون المرض والموت.. عليهم العودة إلى بلادهم". وأكملت: "رمقني الناس بنظرات ملؤها الاشمئزاز، كما لو كنت ناقلةً للفيروس. لم يحرك أحد المستمعين ساكناً، لذا قررت تجاهل الأمر.. وانتقمت من الجميع بأن افتعلت نوبة سعال لأخيفهم أكثر وأكثر".
وإحدى الصحف الفرنسية نشرت على صفحتها الأولى صورة لسيدة من ذوي العرق الأصفر تضع كمامة وعنونت عليها: "إنذارٌ أصفر".. عنوان أثار حفيظة مناهضي العنصرية الذين شنوا حملة انتقادات شرسة على الصحيفة، مما اضطرها للاعتذار، وبخاصة عندما ذكرّوها بأن هذا المصطلح تم استخدمه للمرة الأولى في القرن التاسع عشر مع انطلاق موجة الهجرة الصينية الأولى إلى الولايات المتحدة، وقد انطوى حينها على نزعة عدائية تجاه الآسيويين عموماً.
متابعو منصة "تويتر" بالتأكيد قرأوا مثل هذه القصص، نقلها أشخاص أوروبيون من أصول آسيوية، ومن أكثرها تأثيراً ما قاله أحدهم: "بمجرد ذكر اسم هذا الفيروس يتبادر إلى ذهن الكثيرين أن جميع الآسيويين مصابون به.. أنا مواطن فرنسي من أصول آسيوية، لم أزر الصين في حياتي.. أنا معرض للإصابة بهذا الفيروس كغيري من البشر.. أنا لست فيروساً؛ كفوا عن العنصرية".
وعلى منصة "تويتر" أيضاً طالع ملايين المتابعين كماً لا حصر له من النِكات والتعليقات التي استهزأت بهؤلاء واستهدفت طريقة عيشهم وأشكالهم وعاداتهم الغذائية، وراح كثيرون يروون قصصاً عنهم أغرب مما ينسجه الخيال. كما تناقل مغردون "تويتريون" في كندا ونيوزيلندا أخباراً عن تعرض أطفال من أصول آسيوية للتنمر في المدارس.
فيروس كورونا، الذي سبقه "أيبولا وسارس" من أكثر الفيروسات "الأوبئة" التي نالت كل هذا الاهتمام، والسبب في ذلك يعود لكونه ولد وترعرع ونشأ في "قارة" الصين قبل أن ينتقل إلى دول أخرى قريبة منها وبعيدة عنها.
ولأن الصين هي الشغل الشاغل للناس منذ أكثر من نحو ثلاثة عقود بسبب سرعة نموها الاقتصادي وتصدرها مراتب متقدمة على معظم جداول التصنيفات العالمية، لقي كورونا القادم منها كل هذا الاهتمام وحمل معه كل ما حمله من التحليلات والتوقعات في علوم السياسة والاقتصاد والطب والبيولوجيا وعلوم الأغذية، حتى راق لكثيرين نفض الغبار عن نظرية "توماس مالتوس" واستحضارها من أرشيف القرن التاسع، الذي تحدث فيها حينذاك عن الاختلال الحتمي على كوكب الأرض والذي ستفرضه زيادة عدد السكان، مما سينتج عنه نقص حاد في الموارد الطبيعية، لذلك رأى أنه لا بد من تدخل ما سماها "موانع إيجابية" لتصحيح هذا الخلل، مثل الحروب والأمراض والأوبئة.
كل هذه الأنواع من الأحاديث مقبولة، ويحق لأي كان الإدلاء بدلوه في مرض بات شغل الناس وشاغلهم، ولكن ما لا يحق لأحد بأي حال من الأحوال تحويله لمنصة عنصرية. لذلك مطلوب من الجهات الحقوقية في العالم بأكمله تجريم هذا الفعل ومعاقبة من يقوم به. ومطلوب أيضاً من منصات التواصل الاجتماعي التعامل بمسؤولية إنسانية مع محتوى هذه المنشورات، وفرض خظر على مروجيها.
وفي هذا السياق أيضاً، يبرز دور المنابر الإعلامية المحترمة، وتوخيها كل الحذر عند التحدث عن هذا المرض بخطاب ملتبس قد يحمل أيَّ شكل من أشكال الرُهاب، بل تناوله بخطاب طافح بالتعاطف مع المصابين، وعلى أنه مرض كغيره ستصل المختبرات في نهاية المطاف إلى دواء له.
أما فيروس العنصرية إذا ما استحكم بالناس أو بأي جزء منهم، مهما كان بسيطاً، ستكون عواقبه أخطر بكثير، عواقب قد تعيدنا إلى أجواء القرون الوسطى، وهذا سيحتاج إلى مئات السنين من العمل المتواصل لعلاجه وتحصين الناس بلقاح شافٍ منه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة