بات العالم مشتبكَ المصالح لدرجة أن يعطس شخص في الصين فنخشى من العدوى في العالم العربي ومن الأثر الاقتصادي في المناحي كلها
لِي ثلاثةُ من الأصدقاء، الذين أختلفُ معهم كثيراً، رغم أنّي أحبّ لقياهم من حين لحين، يجمعنا حب القراءة وينتهي بنا الحديث، دائماً، للاختلاف الودي، الذي لا تضطر معه، لإرسال رسالة اعتذار قبل النوم. أحرصُ على لقائهم حرصِي على شحذِ عقلي بكورونا، وأخباره وازدياد أرقام المصابين به، يوماً بعد يوم. وقد تعلمت من الصحافة -قبل الدبلوماسية- النظر إلى الخبر من جهاتٍ شتَّى قبل نشره، لكن الدبلوماسية، تعلمُك، الاستمتاع بالاستماع، الذي يتحوَّلُ إلى شغف يكبر، كلَّما عُدت للبيت وحيداً، كي تحلل، وتربط، وتنظر إلى كل الجهات، قبل أن تتفوَّهَ بكلمة واحدة.
صديقي الأول، كان مقتنعاً بأنَّ عزل المسافرين، القادمين من جهة الوباء، هو الحل الوحيد المتاح حالياً، ولا أختلف معه كثيراً، فلا يَعدِلُ السلامة شيء، لكنَّه كان يستعمل عبارة "حبس القادمين"، وكنتُ متحسساً جداً من تعبيره، فقد قاطعته مرتين، لأخبره بأن مادة "حَبَسَ"، لا تناسب مقام المرض، ولا الوباء، ومن الألطفِ، والأدق، أن نستعملَ مادة - حجر - أي العزل الطبي، للقادمين من مناطق الوباء، حتى يتأكد الأطباء من سلامة القادم.
تخيلوا أن أمة تقارب المليارين خارجة للتو من عيد رأس السنة الصينية تفجع بانتشار هذا الوباء لا التوقيت ولا عدد السكان سمح للصينيين بالوقوف مكتوفي الأيادي، خرج الرئيس ليصف الوباء بالشيطان، بينما قطع جميع المسؤولين إجازاتهم، هذا ليس مدهشاً حتى الآن، لكن انضباط الفرد الصيني أمام تعليمات الحكومة هو المدهش.
استغرب صاحبنا ملاحظتي، التي رآها في غير مكانها، فأكمل كلامَه مستعملاً الحبس، بدلاً من الحجر. أخبرته أن الحبس، الذي يتشدَّق به، لم يكن أصلاً في ثقافة العرب، قديماً، ما دمنا جميعاً نحاول - على الأقل - الحديث عن طرق مناسبة، للحد من انتشار الوباء، فالحبس في أصله، ليس الحبس في مكان ضيق، بل تعويق الشخص، ومنعه من التصرف بنفسه، حيث شاء، سواء كان في بيته، أو حبسه عن ذهابه لعمله، ويكون ذلك لغايات كثيرة: مثل التأديب، أو التعزير، أو كف الأذى، ولسنا نؤدب المريض، ولا نعزره، وإن تساءلنا بإلحاح: نكف الأذى المصاحب له؟ مع أنه لم يختره، فلنستعمل تعبير الحجر الصحي.
وافقني صديقي الثاني - وهو أكثرهم اختلافاً معي - ليكمل قائلاً: "تخيل يا تركي، أن هذا الوباء، ليس الأول، ولا الثاني، ولا الثالث، الذي يأتي من الصين، بل إن اسم الوباء الأخير، الذي جاء من الصين - بدايات القرن الماضي - حصدَ اثني عشر مليوناً من البشر، وسُمّي الوباء الثالث، لكن الناس، لا تعود لقراءة التاريخ، حين تحل الكوارث".
عاد صديقنا الأول للحديث، ولكي يسرق انتباهي، ذهب لحيلة، أتقنها للأمانة، فقد استعان ببيت جميل، معتذراً به، عن استعمال الحبس، فأورد، بيت الشاعر الجاهلي، عبد يغوث بن الحارث، الشهير، حين حبسه الأهتمُ في منزل زوجته، فأنشد الأول:
وتضحَكُ منّي شيخةٌ عبشميَّةٌ
كَأنْ لَمَ ترَ قبلِي أسِيراً يَمَانِيَا
فاتفقت معه على أنَّ الأسر قديم، وكذا الحبس، بمعناه المذكور، مطروق في كلام العرب، وبخاصة بعد اتساع رقعة أرض العرب، وظهور الخلفاء، وشعر العرب يحفظ لنا منه الكثير، ولست مُعيداً أبيات أبي تمام، ولا سجن أبي الطيب، لكن السجن كان حالة فردية، يسهل على الشاعر وصفها، حين يُمنَع من الناس، ومن أدق أوصافه أبيات مروان بن عبدالرحمن، الملقب بالطليق، وسبب تسميته، أنه كان ابن ستة عشر عاماً، حين أُدخل السجن، ومكث فيه مثل سنين عمره، فوصف السجن، قائلاً:
في منزلٍ كالليلِ أسودَ فاحمٍ
داجِي النواحِي مظلمِ الأشباجِ
يسودُّ والزهراءُ تشرقُ حولَهُ
كالحبرِ أُودعَ في دَوَاة العاجِ
ومن الأسرِ الفردي، إلى السجن كثير الزنازين، التقط الصوت جليسنا الثالث، وهو من جهات بغداد، مستبصر العقل، يذهب للمستقبل، تاركاً اللغة لي ولصاحبي الأول، فقال: "أنتم تتحدثون بعقلية عربية، صرفة، بينما الصين، تواجه وحدها اليوم، وباءً، يهدد ثلث سكان الكرة الأرضية، وننسى أنهم شرعوا ببناء مستشفى في ثمانية أيام، والأهم من المستشفى، ما سأقوله بعد أن تسمحوا لي بإيرادِ وصفِ الشاعر معروف الرصافي، للسجن:
بناءٌ محيطٌ بالتعاسةِ والشقَا
لظلمِ بريءٍ أو عقوبةِ معتدِ
محلٌ به تهفُو القلوبُ من الأسى
فإنْ زرته فاربطْ على القلبِ باليدِ
تواصـلتِ الأحزانُ في جنباتِه
بحيث متى يَبـلِ الأسى يتجددِ
لكن دعونا من الشعر، والسجن، الفردي، تخيلوا أن أمة تقارب المليارين، خارجة للتو، من عيد رأس السنة الصينية، تفجع بانتشار هذا الوباء، لا التوقيت، ولا عدد السكان، سمح للصينيين بالوقوف مكتوفي الأيادي، خرج الرئيس ليصف الوباء بالشيطان، بينما قطع جميع المسؤولين إجازاتهم، هذا ليس مدهشاً حتى الآن، لكن انضباط الفرد الصيني، أمام تعليمات الحكومة، هو المدهش. فلا أخبار عن احتكار السلع، والأسعار مضبوطة، ولا مشاهد للسرقة، ولا عصابات للسطو، استغلالاً للفوضى، التي كانت ستسود، لو كان المرض في غير الصين، ولأصبح توقيتاً مناسباً، للخروج على القانون!
ابتسمت وقلت لصديقي العراقي: هل سمعت بسجن الإمبراطور الصيني الحكيم، ناي دزونغ (627 - 650م) وقصته مع المساجين، ما دمنا قد انتقلنا من الكورونا، للسجون، والحجر الصحي؟ فقد زار، سجن منطقة شاجان، وبين يديه مائة وتسعون سجيناً محكوماً بالإعدام، فأرسلهم لحرث الأرض، مكتفياً بوعد شرف، أن يعودوا لسجنهم، بعد أن ينجزوا المهمة الموكلة إليهم.
مقابل ثقة الإمبراطور، أنجز المساجين المهمة، وعادوا بمحض إرادتهم للسجن، فَسُرَ منهم الإمبراطور، وعفا عنهم جميعاً. فلا أستبعد أبداً أن يُنجَزَ المستشفى، الذي ذكرته في سبعة أو ثمانية أيام، ما دام العقل الصيني، مستعداً للعمل، منجزاً، يعمل بصمته القديم، ويقاوم الأوبئة التي يخافها العالم أجمع، بينما يذهب الصيني للعمل بجدية جعلته صناعته، نداً ومنافساً للمصانع الأمريكية اليوم، والأسباب كثيرة؛ أهمها الذاكرة الصينية، التاريخية، مع الأوبئة، تلك التي تملأ الشعوب خارج الصين بالذعر، بينما المارد الصيني، المعتاد - تاريخياً - على الأوبئة، ينظر إليها تحدياً، يجمع الأمة الصينية، ويزيدها قوة إلى قوتها، تاركاً العالم منشغلاً بالأرقام، وجلستنا متعلقة بتعريفات السجن، والحبس، والعزل. إنهم يواجهون الشيطان كما قال رئيسهم، لا الوباء، كما نسميه اليوم!
تنهد صديقنا الثاني - المهتم بالتاريخ - وقال: لا يؤلمني إلا الشامتون بمصائب غيرهم، كل ذلك مذكور في كتب التاريخ، لكنهم لا يقرأون، والجاهل شامت، حتى يصيبه ما وقع للأعرابي الذي هلك أخوه، فأظهر بنو عمه الشماتة له، فأنشأ يقول:
ولقد أقولُ لذي الشَّمَاتَةِ إذْ رأى فجعِي
ومَن يذقِ الفجيعةَ يجزعِ
اشمتْ فقد قَرَع الحوادثُ مروتي
وافرحْ بمروتِك التي لم تُقْرَعِ
إن تبقَ تُفْجَعْ بالأحبة كلِّهم
أو تُرْدِك الأحداثُ إن لم تُفْجَعِ
نتائج فيروس كورونا الحالي، إن لم تصب أحداً بالمرض، فستصيبه بأثر اقتصادي سلبي، ولو كان محدود الدخل، فقد بات العالم، مشتبكَ المصالح، لدرجة أن يعطس شخص في الصين، فنخشى من العدوى في العالم العربي، ومن الأثر الاقتصادي في المناحي كلها.
كفانا الله وإياكم شر الأوبئة، والأمراض، والشياطين، والكوارث، ما ظهر منها وما بطن.
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة