منذ نحو 20 عاما، تحديدا في 2003، كنت مدعوًّا لمؤتمر تمهيدي لعرض تجهيزات استضافة أول مؤتمر لصندوق النقد والبنك الدوليين "اجتماعات الربيع" خارج الولايات المتحدة.
وكانت دبي، هي التي ستشهد هذا الحدث الاستثنائي، وخلال الزيارة تمت دعوة الوفد الإعلامي لزيارة "مدينة دبي للإنترنت" ومقابلة الفريق المسؤول عن المدينة، وكان أكثر ما أدهشنا خلال اللقاء هو سنّ الفريق المسؤول عن تحويل الخيال إلى واقع.
كان أكبر عضو في الفريق لا يتجاوز 28 عاما، وحجم الاستثمارات التي يديرها "نحو 500 مليون دولار" في البنية الأساسية، لكن بعد مرور عقد كان الخيال أصبح واقعا ملموسا، وأصبحت دبي قِبلة كبرى شركات التكنولوجيا في العالم لإقامة مقراتها الإقليمية وعاصمة المال والاقتصاد بالمنطقة.
هذه الحادثة وأنا أتذكرها الآن بعد مرور نحو عقدين من الزمان وأنا أتابع أداء اقتصاد دولة الإمارات العامين الماضيين خلال أزمة جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وقدرته على التعامل مع الأزمتين بشكل احترافي، لتكون من أقل الدول تأثرا بالأزمتين ودون تأثير كبير في حياة مواطنيها، كل ذلك يعني أن صناعة الخيال الإنساني ليس ترفًا، إنما أداة لتحسين نوعية الاقتصاد وجعله أكثر صمودا في مواجهة المستقبل.
هذا الخيال هو ما جعل شخصا مثل إيلون ماسك بمشروعاته، التي أقل ما كان يقال عنها أنها "جنونية"، يتصدر قائمة أغنياء العالم بثروة مهولة، وهو أيضا ما جعله يتلاعب بالأسواق بتغريداته المثيرة للجدل، فهل هي ثروته فقط التي تجعله قادرا على ذلك أم قدرته على تحويل الخيال لواقع بداية من سيارة "تسلا" الكهربائية وصواريخه التي تنطلق للفضاء وحوّلته لوجهة سياحية؟
جزء كبير من ثروة إيلون ماسك، التي تتجاوز 270 مليار دولار، جاءت من الخيال الذي حوّله إلى واقع، وهو ما يمكن أن نسميه "تعدين الخيال"، و"ماسك" يؤكد ذلك في جميع تصريحاته، بأن الفضل في هذه الثروة يعود للخيال والقراءة.
أحيانا رغم أن هذا الخيال يمكن أن يكون قد راود الكثير من الناس، لكن ما صنع الفارق هو أن إيلون ماسك وغيره من مليارديرات التكنولوجيا وجدوا المناخ، الذي يؤمن بأن الخيال صناعة، ويجب أن نمهد لها الطريق لترى النور، وهو ما يجيب عن بعض تساؤلاتنا، ومنها: كيف تملك بعض الشركات الأمريكية، التي تتجاوز ثرواتها تريليونات الدولارات، ما لا تملكه دول بأكملها؟
إذا نظرنا إلى مستوى الدول نجد أن جزءا كبيرا من الصراع بين الصين والولايات المتحدة على صناعة الخيال "التكنولوجيا المتطورة"، والتي تُظهر في السنوات الأخيرة تفوقًا لجانب الصين، التي باتت منتجاتها التكنولوجية تغزو العالم، فلا يخلو بيت الآن في العالم من بضاعة صينية، ولا يوجد جهاز كمبيوتر أو "سوفت وير" لم توضع براءة اختراعه في أمريكا، كما يلاحظ الصراع بين مليارديرات التكنولوجيا على قيادة هذا القطاع، ورغم أن الصدارة لا تزال أمريكية فإن مزاحمة الصين بقوة وتفوقها في مجالات متعددة يخيف واشنطن، ويجعلها تعيد النظر باستمرار في مستويات التعليم التي تسهم في تخريج مبدعين وأصحاب خيال، لتواصل صدارتها عالميا في صناعة الخيال.
الأمر لم يعد مقصورا على تلك الدولتين، فهناك دول عديدة، ومنها دول في المنطقة العربية، دخلت في هذا الخضم من خلال تحسين مستويات التعليم واستقطاب العقول المبدعة، التي تمتلك القدرة على التخيل، وإطلاق برامج تعليمية متعلقة بالخيال، ومنها دولة الإمارات التي أسست "جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي" لتتبنّى أفضل العقول المبدعة في هذا القطاع الواعد، كما أسست "برنامج الإمارات لرواد الفضاء"، وهو ما يعكس رؤيتها للتعامل مع المفاهيم الاقتصادية الجديدة مثل الفضاء الرقمي وثورة البيانات والذكاء الاصطناعي.
إن هجرة العقول المبدعة في القرن الماضي نرى نتيجتها الآن، حيث اتضح التفوق الساحق للاقتصادات الدولية كحالة أمريكا والصين وأوروبا عبر تسريع إنتاج خيال الإنسان، ودعم تطبيقاته في صناعات الإبداع، التي حققت تفوقًا وقدرة على التكيف مع الأزمات.. ومن ثم فعلى الدول العربية إدراك أن صناعة الخيال ليست ترفًا، بل ضرورة لتحسين نوعية الاقتصاد استعدادًا للمستقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة