الشاعر أوجينيو مونتالي.. محارب "الفاشية" وملهم الإيطاليين
في مسيرته، عبر مونتالي دائما عن اعتزازه الكبير بجولات رافق فيها بابا الفاتيكان بولس السادس ومنها جولة في فلسطين
في 12 سبتمبر من العام 1981 غيّب الموت الشاعر الإيطالي أوجينيو مونتالي، واحد من بين قلة من شعراء العالم الذين خرج لوادعهم رؤساء بلدانهم، ففي جنازته خرج الرئيس الإيطالي ورئيس مجلس الشيوخ ينعيانه ليس فقط بصفته أحد الأعضاء الدائمين في المجلس، وإنما لأنه الشاعر الذي نال نوبل وظل موقفه الرافض للفاشية ملهما للجميع.
تأخرت معرفة القراء العرب بإنتاج مونتالي الأدبي كثيرا، فإعماله لم تترجم إلا عبر مشروع "كلمة" في أبوظبي الذي نشر ديوانه الأول "عظام الحبار" عام 2010 بترجمة عزالدين عناية ومحمد الخالدي.
تبدو سيرة مونتالي درامية إلى حد بعيد، وفيها الكثير من المواقف التي تليق بشاعر وتعكس استجابته القلقة لما يجري حوله، فهو ولد في مدينة جنوة في 12 أكتوبر 1896 لعائلة تعمل بتجارة المواد الكيميائية ولهذا السبب لم يتلق تعليما نظاميا بسبب ظروفه.
يقول مونتالي: "كانت عائلتنا كبيرة، من 6 أفراد، أخي يعمل، وأختي هي الوحيدة التي وصلت إلى التعليم الجامعي، أما أنا فلم أمتلك تلك الفرص. ففي العديد من العائلات، هناك بعض الترتيبات غير المنصوصة التي تقول إن مهمة رفع اسم العائلة غير منوطة بأصغر أفرادها".
عمل مونتالي محاسبا لفترة من الزمن إلا أن ميوله قادته إلى الأدب وبدأ تعليما ذاتيا مكنه من اكتشاف سحر أدب الشاعر الإيطالي دانتي (1265- 1321) وظل لسنوات يؤكد: "أمام دانتي لا يوجد شعراء آخرون".
وبسبب شغفه بأدب عصر النهضة قرر مونتالي تعلم العديد من اللغات اللاتينية وقضاء ساعات طويلة في المكتبات إلى جانب الحرص على حضور دروس أخته ماريانا الفلسفية الخاصة، كما أنه درس غناء الأوبرا.
ويؤكد مؤرخو الأدب الإيطالي أن إنتاج مونتالي يمثل مع الشاعرين جوزيبي أونغاريتي (1888-1970م) وسلفاتوري كوازيمودو (1901-1968م)، أفضل نماذج الشعر الإيطالي خلال الربع الأول من القرن العشرين، إذ شكّل تأثيرهم ما يشبه "البلاغة الجديدة" التي أظهرت تأثرهم البالغ بالحداثة الشعرية كما عكسها إنتاج الشاعرين الفرنسيين بودلير (1821-1867) وآرثر رامبو (1854 -1891).
ظل مونتالي يتصرف بروح الشاعر ويكتب متحررا من أي التزام إلى أن تم استدعاؤه للجبهة خلال الحرب العالمية الأولى وعاد في عام 1920. وواصل مسيرته والكتابة للصحف والمجلات.
وحين نشر ديوانه الأول "عظام الحبار" أحدث دويا في الأدب الإيطالي فكان نبراساً لجيل كامل من الشعراء، إذ عبر من خلاله عن قلق اللحظة التاريخية التي عاشتها أوربا في هذا التوقيت. وبدا واضحا أن شعره بما كان يطرحه كشف الفخامة الكاذبة للبلاغة التي أشاعتها أجهزة النازية والفاشية.
ويرى كثيرون أن ديوان "عظام الحبار" ينتمي إلى أدب النبوءة لكونه تنبأ بتدهور أوروبا وذهابها إلى الحرب فضلا عن انحطاط قيمها الثقافية الرفيعة وصعود موجات الفاشية ولهذا طغت على الديوان "نزعة تشاؤمية " كاسحة.
وجد شعر مونتالي استقبالا أوروربيا لافتا، خصوصاً أنه عبّر عن روح جديدة تتجاوز الانغلاق الذي كانت إيطاليا تعاني منه، وتمكن بفضل ثقافته اللاتينية العميقة إبراز كونه "مواطنا عالميا"، وزاد من هذا الشعور استقراره في نهاية الثلاثينيات في فلورنسا، العاصمة الثقافية لإيطاليا آنذاك، حيث أصدر "بيت الجمركيين" (1932) و"المناسبات" (1939)، اللذين جعلاه يُصنّف في خانة "شعراء العزلة"، الذين تشككت الفاشية في نواياهم، ما أدى ‘لى فصله من العمل، فلجأ إلى الصحافة والترجمة.
عقب الحرب العالمية الثانية انتقل مونتالي للعيش في مدينة ميلان منذ عام 1948 حتّى وفاته، وتوالت أعماله هناك، فنشر ترجمة المختارات من الأدب الأنجلوسكسوني، ومجموعة قصصية، ومراسلاته مع إيتالو سفيفو، ومنتخبات من مقالاته وانطباعاته عن أسفاره (1969)، التي طغت عليها ذكرياته عن فرنسا.
وبسبب تركيزه على الكتابة الصحفية والتعليقات خفت إنتاجه الشعري إلى حد كبير وفي كتاباته النثرية ركز على شغفه البالغ بالموسيقى وتفرغ لكتابة التعليقات على النصوص الموسيقية والأوبرات عبر صفحات جريدة "كورييري ديلاسيرا" ما ساهم في شيوع اسمه بين المثقفين، وبدأ يُكرَّس رسمياً كواحد من أكبر شعراء إيطاليا الأحياء، وراح القراء الإيطاليون يقرأون بشغف مجموعاته وكتبه مثل "نوافذ" (1945) و"القلق وقصائد أخرى" (1956) و"فراشة دينار" (1956) الذي توقف بعده لعدة سنوات.
أعادته وفاة زوجته عام 1963 للكتابة عبر ديوان "المشبعة" الصادر عام 1971، الذي أظهر استجابة للتحوّلات السياسية والاجتماعية، التي عاشتها بلاده لذلك يجري النظر إليه دائما كشاعر ملتزم، يمزج التشاؤم بالسخرية، حسب ما يصفه مترجما ديوانه الصادر عن مشروع "كلمة".
في مسيرته، عبر مونتالي دائما عن اعتزازه الكبير بجولات رافق فيها بابا الفاتيكان بولس السادس ومنها جولة في فلسطين سجل عنها بعض الانطباعات وما رآه هناك وقد تم جمع أعماله الصحفية في مجلد "بعيدًا عن الوطن" عام 1969.
ومن اللافت أن مونتالي وجد تقديرا سياسيا كبيرا حين تم تعيينه مستشار إلى الأبد بمجلس الشيوخ الإيطالي وعندما جاءته جائزة نوبل للآداب وهو على مشارف الثمانين شعر الإيطاليون بالزهو واستعادوا صلتهم بشعره بينما تورط هو، كما يقول نقاد أعماله، في موجة من التكرار باستثناء مجموعة "اليوميات" التي ظهرت عقب وفاته وتولت نشرها مساعدة كانت تعمل معه اسمها آنا ليزا تشيما. ولا زال البعض يتشكك في صلتها بإنتاج الشاعر زاعمين أن مساعدته كتبتها ناسبة إياها إليه لغاية في نفسها.
aXA6IDE4LjIyNS4yNTUuMTk2IA== جزيرة ام اند امز