شوارع القلق.. كيف كانت الجريمة وقودا لصحوة اليمين البريطاني؟

في شوارع لندن الضيقة، وبين الأزقة القديمة للمدن الصناعية الشمالية، يختلط شعور القلق بالهواء. المواطن العادي يلاحظ تغيرًا واضحًا في بيئته الاجتماعية والثقافية، شعورًا بالفقدان يمتد إلى الثقة بالقانون والمؤسسات وحتى المستقبل.
تلك الشوارع التي كانت يومًا مرآة للنظام والأمن أصبحت أماكن يختلط فيها القلق مع الحذر الدائم. هذه الحالة ليست شعورًا عابرًا، بل نتاج تراكم سياسات الحكومة البريطانية عبر سنوات، التي رغم نواياها الإصلاحية، ساهمت في خلق أرضية خصبة لصعود خطاب يميني غاضب.
فقد أظهرت دراسة London School of Economics أن المواطنين الذين يشعرون بأن الدولة بعيدة عن مشاكلهم اليومية يميلون بشكل أكبر لتبني خطاب يميني متشدد، خصوصًا عندما يرتبط بالأمن والهوية الوطنية.
الجريمة والتحلل الاجتماعي
لا يمكن فهم الأزمة دون التوقف عند الجريمة، الوجه الأكثر وضوحًا لانهيار العلاقة بين المواطن والدولة. أرقام مكتب الإحصاء البريطاني (ONS) تكشف عن تصاعد مقلق لجرائم استخدام الأسلحة البيضاء، حيث سجلت إنجلترا وويلز نحو 50,500 حالة، بزيادة 4.4% ، مع تركيز ثلثها في لندن وحدها التي سجلت أكثر من 16,000 حالة.
أما المدن الصناعية الشمالية مثل West Midlands وManchester وLiverpool فشهدت معدلات أعلى، تراوحت بين 180 و200 حالة لكل 100,000 نسمة، فيما أظهرت دراسة Home Office ارتفاع جرائم السطو والسرقة والاعتداء الجسدي في الأحياء ذات الدخل المتوسط والمنخفض، لتتجاوز مناطقها التقليدية وتصل إلى ضواحي لندن ومدن كانت تُعتبر آمنة سابقًا.
ارتفاع الجريمة انعكس مباشرة على الحياة اليومية للمواطنين. استطلاع Crime Survey for England and Wales أظهر أن 70% من البريطانيين يشعرون بالقلق من التعرض للجريمة، و55% يرون أن الدولة لا توفر الحماية الكافية.
هذا القلق تحول إلى إحباط شعبي، دفع المجتمعات المحلية لتنظيم نفسها خارج نطاق الشرطة عبر مجموعات مراقبة وحملات دفاعية، مؤشر واضح على فقدان الثقة بالمؤسسات الرسمية.
جزء كبير من هذه الظاهرة مرتبط بسياسات الحكومة التي ركزت على معالجة الجذور الاجتماعية للجريمة مثل الفقر والتهميش والبطالة بدل الردع التقليدي. برامج العدالة التصالحية وتخفيف العقوبات على الجرائم الصغيرة أثارت انتقادات شعبية، إذ شعر المواطن أن القانون أصبح يحمي المجرم أكثر من الضحية. الشرطة نفسها عبرت عن شعورها بالضغط السياسي أثناء التعامل مع المجرمين، وسط مخاوف من اتهامات بالتمييز أو العنصرية.
الجريمة لم تقتصر على العنف الفردي، بل شملت جرائم منظمة مثل سرقات المنازل وجرائم تجارة المخدرات. تقارير London Crime Analysis أظهرت توسع شبكات الجريمة المنظمة في الأحياء الشمالية والشرقية للعاصمة، ما زاد شعور المواطنين بأن مناطقهم أصبحت خارج السيطرة. هذا الخوف استُغل سياسياً من قبل اليمين الذي ربط ارتفاع الجريمة بفشل الحكومة في حماية المجتمع.
خلال الاحتجاجات الكبرى في سبتمبر/أيلول 2025، كانت الجريمة والعنف في الشوارع من أبرز الشعارات، حيث استخدم المشاركون حوادث السطو والاعتداء لإثبات "فشل الدولة"، والمطالبة بسياسات أكثر صرامة وإعادة السلطة للشرطة.
المواجهات بين المتظاهرين والشرطة كشفت عن عمق التوتر بين المواطنين والإطار القانوني، حيث أصبح الاحتجاج وسيلة للتعبير عن شعور يومي بعدم الأمان وانعدام العدالة.
دراسة The Social Impact of Crime in Urban England أوضحت أن ارتفاع الجريمة يزيد الدعم للسياسات اليمينية، خصوصًا بين الفئات المتضررة اجتماعيًا، ليجد اليمين أرضية خصبة لتعبئة الشارع عبر خطاب يركز على الأمن وحماية المواطنين والحفاظ على القيم التقليدية.
التعليم و فقدان القيم
القيم والهوية أصبحت محور صراع واسع. سياسات الحكومة ركزت على حقوق الأقليات العرقية والجندرية والجنسية، ودافعت عن التعددية الثقافية كرمز للحداثة. لكن استطلاع British Social Attitudes أظهر أن شريحة واسعة من البريطانيين ترى أن هذه السياسات غريبة عن حياتهم اليومية، وأن الخطاب الإعلامي والنخبوي بعيد عن واقعهم، ما ساهم في تأجيج السخط الشعبي .
المناهج التعليمية الجديدة التي أعادت النظر في الرموز التاريخية والشخصيات الوطنية بسبب ارتباطها بالاستعمار أو العبودية، خلقت شعورًا بأن الماضي أصبح خصمًا، والحاضر مفروض عليه سياسات ثقافية جديدة. مصطلحات مثل "woke"، "inclusion"، و"equity" هيمنت على النقاش العام، وشعرت فئات كبيرة من المواطنين أن الالتزام بهذه الأيديولوجيا أمر مفروض، وإلا وُصفوا بالتحجر أو التخلف. الجامعات والمتاحف ووسائل الإعلام المدعومة حكوميًا تحولت إلى رموز للسيطرة الفكرية، مما عمّق فجوة الثقة بين المواطن والنخبة.
النخبوية والانفصال عن القاعدة الشعبية
النخبوية أصبحت محورًا لفهم الأزمة. حزب العمال الذي كان يمثل الطبقات العاملة والمدن الصناعية تحول تدريجيًا إلى حزب المدن الكبرى والنخبة المثقفة. الإعلام الوطني الذي كان يُنظر إليه عادة كمنصة حيادية، أصبح متهمًا بالهيمنة على الخطاب الثقافي. تقرير Elites in the UK: Pulling Away أشار إلى شعور الطبقات الشعبية بالتهميش، وبأنهم خارج دائرة صنع القرار السياسي والثقافي، فيما زادت المصطلحات الأكاديمية المعقدة والمسائل الفكرية المتخصصة الفجوة بين الناس والنخبة .
هذا الانفصال خلق شعورًا بأن صوت المواطنين غير مسموع، وأن السياسات تُصاغ بعيدًا عن احتياجاتهم اليومية. تحت هذا الغضب المتراكم، أصبحت الاحتجاجات ضد السياسات الحكومية، بما فيها مسيرات العلم الإنجليزي وحملات مكافحة الجرائم في الشوارع، متنفسًا لرفض هذه النخبوية.
صعود اليمين والاحتجاجات الأخيرة
مع تراكم عوامل ارتفاع الجريمة، صراع الهوية، فرض التعددية، والانفصال عن النخبة، وجد اليمين بيئته المثالية للظهور. احتجاجات العلم الإنجليزي، ومسيرات ضد العنف في الشوارع، وحركات مناهضة لسياسات الحكومة كلها ردود فعل على إحباط شعبي متزايد. البريكست كان أيضًا تعبيرًا عن رفض السياسات الثقافية والاقتصادية، ورغبة في استعادة السيطرة على الحياة اليومية والهوية الوطنية والشعور بالأمان.
وفي سبتمبر/أيلول 2025، شهدت لندن أكبر مظاهرة يمينية في تاريخها الحديث، بمشاركة بين 110,000 و150,000 شخص في مسيرة "Unite the Kingdom" التي نظمها الناشط تومي روبنسون. المظاهرة شهدت خطابًا من شخصيات بارزة مثل إيلون ماسك والزعيم الفرنسي إريك زمور، مع دعوات مناهضة للهجرة وانتقادات للسياسات الحكومية، واندلعت مواجهات عنيفة بين المتظاهرين والشرطة.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTI0IA== جزيرة ام اند امز