الشعبوية في بريطانيا.. صراع الهوية والتعددية الثقافية
قراءة في ظاهرة الهجرة كورقة فاعلة لليمين البريطاني

في العقود الماضية، كانت بريطانيا من الدول التي افتخرت بالتعددية الثقافية، خصوصاً مع موجات الهجرة القادمة من مستعمراتها السابقة في الكاريبي، جنوب آسيا وأفريقيا.
سياسات الإدماج ركزت على الاحتفاء بالتنوع، وكان يُنظر إلى لندن باعتبارها "العاصمة العالمية" التي تجتمع فيها كل الأعراق والثقافات. لكن مع مطلع الألفية، تغير المزاج العام تدريجياً. ففي عام 2011 أعلن رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون أن "التعددية الثقافية فشلت"، وهي عبارة لاقت صدى واسعاً لأنها عبّرت عن شعور متزايد بأن التنوع أصبح عبئاً بدلاً من كونه ثراء.
الأبحاث البريطانية بينت أن الأزمة لم تكن في التعددية بحد ذاتها، بل في غياب سياسات عادلة لتوزيع الموارد والفرص. الأحياء الفقيرة في برمنغهام أو مانشستر مثلاً كانت بيئة خصبة لنمو مشاعر الغضب لدى السكان الذين شعروا أن الدولة تركتهم يتنافسون على وظائف قليلة وسكن محدود. هنا وجدت الشعبوية فرصتها لتقدم رواية بسيطة: المهاجرون هم السبب.
الهجرة كأداة سياسية ضمن منطق الشعبوية
الشعبوية، كما يوضح كبار الباحثين، ليست أيديولوجيا مكتملة بذاتها بل «أيديولوجيا رقيقة» (thin-centred) تُكمِّلها قضايا مثل القومية أو النخبوية؛ ومن ثم فإن ملف الهجرة يوفر أرضية متكاملة للشعبوية لكي تبني خطابها عن «الشعب النقي» و«النخبة الفاسدة».
ما يحدث عمليًا هو تحويل مسألة معقدة (حركات سكانية، ضغط سوق العمل، سياسات لجوء دولية) إلى سرد بسيط ومكرِّر: المهاجرون «يأخذون وظائف السكان»، «ينقضون على الخدمات»، أو «يهددون الهوية».
هذه الآلية الخطابية تخدم هدفين متداخلين: أولاً، تبسيط رسالة انتخابية قابلة للاتصال العاطفي؛ وثانياً، إقناع قواعد واسعة بأن الأزمة مستمرة وتحتاج إلى قيادات «حاسمة» — وهو ما يسمح للقادة الشعبويين بترويج حلول أمنية أو استثنائية تسند سلطاتهم.
دراسات لائحة مثل أعمال كاس مودِّي توضح تعريف الشعبوية وتبيّن لماذا قضايا الهوية والهجرة ملائمة لهذه الخريطة التحليلية، بينما أبحاث مراجعة الأدبيات عن اليمين الشعبوي توضح العلاقة بين مطالب الجمهور المحلية ونجاح الأحزاب الشعبوية عند تحويل الهجرة إلى «قضية مركزية». لذلك، فهم كيف تُختزل الهجرة إلى شعار هو مفتاح لقراءة لماذا تزدهر الشعبوية في أزمنة الأزمات أو التحوّلات السريعة.
صعود الشعبوية البريطانية.. من "بريكست" إلى أحزاب اليمين
الشعبوية مفهوم متشعب يوصف تارة بأنها "أيديولوجيا هشة"، وتارة أخرى بأنها أسلوب سياسي أو خطاب تعبوي. لكن القاسم المشترك هو الاعتماد على تبسيط الأزمات وتهويلها لاستقطاب المؤيدين.
الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في يونيو/حزيران 2016 كان لحظة فارقة في صعود الشعبوية. الخطاب الذي قاد حملة "بريكست" اعتمد بشكل كبير على موضوع الهجرة، حيث تم تصوير الاتحاد الأوروبي كمنظومة تسمح بتدفق المهاجرين وتؤثر على فرص العمل والخدمات العامة في بريطانيا. شعارات مثل "استعادة السيطرة" كانت في جوهرها رد فعل على سياسات التعددية الثقافية والانفتاح الأوروبي.
الأحزاب الشعبوية مثل حزب الاستقلال البريطاني (UKIP) ثم حزب بريكست استثمرت هذا المزاج. ومع تراجعها لاحقاً، تبنت التيارات داخل حزب المحافظين كثيراً من هذا الخطاب. الأبحاث التي أجريت بعد الاستفتاء كشفت أن المناطق التي صوّتت بأغلبية لصالح الخروج لم تكن بالضرورة أكثر المناطق استقبالا للمهاجرين، بل تلك التي شعرت بالتهميش الاقتصادي والثقافي. هذا يعكس كيف استُخدم ملف الهجرة كرمز لأزمات أعمق تتعلق بالهوية والمكانة.
من التهميش إلى الرسائل الانتخابية المدفوعة بالخوف
الربط بين الضغوط الاقتصادية وتقبل الخطاب الشعبوي ليس مباشراً أو أحادي البُعد؛ بدلًا من ذلك، الأدلة تشير إلى تداخل عوامل هيكلة (العولمة النيوليبرالية، فقدان وظائف صناعية، تراجع الشبكات الاجتماعية) مع عوامل محلية (سوق سكن ضيق، خدمات عامة متوترة) والتي تخلق أرضية خصبة للمخاوف من «الآخر». دراسات كمية وتجريبية أظهرت أن موجات لجوء مفاجئة أو زيادات محلية في تواجد طالبي لجوء ترتبط بارتفاع طفيف في أصوات الأحزاب اليمينية المعادية للهجرة — تأثير ذو حجم صغير لكنه مهم سياسياً لأنه يكسر المعادلات في دوائر انتخابية محدودة.
مثال واضح: أبحاث عن تأثير أزمة اللاجئين في 2015–2017 على تصاعد الدعم للأحزاب اليمينية في عدة بلدان أوروبية تُظهر علاقة سببية جزئية بين ارتفاع أعداد طالبي اللجوء والميل الانتخابي نحو أحزاب تُقدّم سياسة هجرة أكثر تشدُّداً، خصوصًا في مناطق تعرضت لضغط فوري على خدمات الاستقبال والإسكان. من جهة أخرى، عوامل مثل انخفاض الثقة بالمؤسسات التقليدية والفراغ السياسي بين النخب والحركات الاجتماعية تُضاعف أثر الرسائل الشعبوية؛ أي أن الناس لا تبحث دائماً عن سبب اقتصادي محض، بل عن سرد يعطي معنى لعدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
الأبحاث التي استخدمت بيانات محلية على مستوى البلديات (مثل دراسات إيطاليا والبحوث المتعددة حول أوروبا) تدعم هذه القراءة وتُظهر أن النتيجة العملية ليست بالضرورة أن المهاجرين هم سبب الركود الاقتصادي، بل أن السياسات والاقتصاد المرن والمعلومات الإعلامية تشيّد حالة تجعل من الهجرة كبش فداء سياسياً قابلاً للاستعمال.
الاقتصاد والهجرة.. صورة مشوشة
الاقتصاد البريطاني يعتمد بشكل كبير على المهاجرين، سواء في قطاع الصحة (NHS) أو البناء أو الزراعة. تقارير رسمية صادرة عن بنك إنجلترا ووزارة المالية أوضحت أن المهاجرين يساهمون في رفع الناتج المحلي، وأنهم أقل اعتماداً على المساعدات الحكومية من بعض الشرائح المحلية. لكن هذه الحقائق لم تمنع الخطاب الشعبوي من ربط الهجرة مباشرة بمشكلات البطالة والسكن.
دراسة لجامعة أكسفورد أوضحت أن الإعلام لعب دوراً كبيراً في ترسيخ هذه الصورة. فالعناوين الصحفية التي تتحدث عن "تدفق المهاجرين" أو "ضغط على المدارس والمستشفيات" تُعيد إنتاج صورة ذهنية تجعل المواطن العادي يرى الهجرة تهديداً شخصياً. وهكذا، يصبح النقاش حول التعددية الثقافية نقاشاً حول "من يحصل على ماذا"، بدلاً من أن يكون نقاشاً حول قيم التعايش.
البعد الثقافي وقصّة «الحنين».. لماذا تُتحول القيم إلى ساحة صراع
إلى جانب الضغوط المادية، هناك بعد ثقافي جوهري: كثير من الناخبين الذين يتحوَّلون صوب الشعارات الشعبوية يتحدثون بلغة «الهوية» و«الخوف من التغيير القيمي» أكثر من حديثهم عن بطالة محددة. مفهوم «الحنين» أو الرغبة في استعادة صورة مجتمع مألوف — قِيَميًا وتاريخيًا — يلعب دوراً مركزياً: هذه السياسة لا تطالب دائماً بتفسير اقتصادي عقلاني، بل بعلامات رمزية تؤكّد «من ينتمي ومن لا ينتمي».
نظرية backlash الثقافي لدى بعض الباحثين (مثل نقاشات إنغلْهارت ونورّيس) تبيّن أن جزءاً من ارتفاع الدعم للشعارات الشعبوية ناجم عن رد فعل تجاه قيم ليبرالية/تكيفات اجتماعية (التعددية، حقوق الأقليات، الأدوار الجندرية) التي يشعر قسم من السكان أنها فُرِضت عليهم من قبل نخب كوزموبوليتانية.
أمثلة تطبيقية تراوحت بين استفتاء البريكست في بريطانيا، حيث لعبت مخاوف الهوية دوراً مركزياً بجانب عوامل اقتصادية، وبين سياسات هجرة متشددّة في دول أوروبية استخدمت سرد «مشروع إنقاذ الهوية» (مثل حملات فيدس في المجر أو لوحات دعائية معادية للهجرة) لتجديد القاعدة الشعبية.
دراسات قياسية تقارن الاتجاهات القيمية بين مواطنين ومهاجرين تُظهر أيضاً أن التغير الثقافي يحدث على مدى طويل وأن الخوف منه غالباً ما يكون متضخماً سياسياً — ما يبيّن أن معركة الهجرة هي في جوهرها صراع حول معنى الوطن والحقوق الرمزية، وليس فقط حسابات سوقية.
استراتيجيات التواصل والإعلام.. كيف يُعاد تشكيل الحقيقة اليومية
الشعبوية تتقن أدوات الاتصال الرمزي: اختزال رسائل طويلة إلى شعارات، استدعاء صور «الغزو» أو «الفيضان»، وتصوير المهاجرين كتهديدات أخلاقية أو أمنية. هنا يلعب الإعلام التقليدي والرقمي دوراً مزدوجاً: من جهة، يوسّع المنصات الإعلامية الرقمية الوصول السريع للرسائل المبسطة؛ ومن جهة أخرى، يعيد ترتيب أولويات التغطية بحيث تتحول قصص فردية—حادثة عنيفة، مأساة دينًا—إلى قصص عامة تبني انطباعًا عن «أزمة متصاعدة».
دراسات عن «إطارات الإعلام» (media framing) ترصد كيف أن اختيار الكلمات، الصور، ومواضع العناوين يغيّر مستوى القلق العام تجاه المهاجرين. أمثلة ملموسة: حملات لوحات إعلانية في بعض الدول الأوروبية التي استخدمت لغة الخوف، أو تغطية إعلامية أنتجت انطباعات محلية خاطئة عن نسب الجريمة بين المجموعات المهاجرة؛ كذلك لعبت شبكات التواصل دورًا في تضخيم الحالات القصصية وتحويلها إلى «براهين» على الأزمة.
أبحاث منشورة تقارن التجارب الإعلامية في دول مختلفة تشير إلى أن التأثير التجريبي لإطارات الإعلام يمكن أن يكون قوياً جدًا في تجارب مخبرية، لكن في البيئة المعلوماتية الحقيقية يتقاطع مع عوامل الهوية والمؤسسات، ما يجعل النتيجة مركبة: لا يكفي الحديث عن كذب/صدق الأخبار، بل عن أي إطار يبرز ويُعاد تداوله من قبل قادة سياسيين ومنصّات إعلامية — وهو ما يمنح الشعبويين قدرة على تشكيل تصورات جماهيرية مستمرة
الإعلام البريطاني.. صناعة الخوف من "الآخر"
الصحافة الشعبية في بريطانيا مثل "ديلي ميل" و"صن" ساهمت في تأجيج الخطاب المناهض للهجرة. تقارير عديدة وثقت كيف تُختار الصور والكلمات لتقديم المهاجرين كجماعة غامضة أو خطيرة. المنصات الرقمية زادت الأمر تعقيداً، حيث تنتشر الأخبار المثيرة بسرعة كبيرة وتعيد إنتاج الصور النمطية.
هذا الدور الإعلامي جعل الهجرة ورقة مشتعلة دائماً، حتى في القضايا التي لا علاقة مباشرة لها بالمهاجرين. فعندما تواجه بريطانيا أزمة اقتصادية أو ضغوطاً على نظام الرعاية الصحية، يُعاد استدعاء ملف الهجرة كمتهم جاهز. في المقابل، الأصوات الداعمة للتعددية الثقافية تجد صعوبة في الوصول إلى الجمهور العريض، لأن خطابها أقل إثارة وأقرب إلى التعقيد والتحليل.
ليست الأحزاب الشعبوية وحدها من يوظف ملف الهجرة. حتى المنظمات الدولية والوكالات الإنسانية والإعلام العالمي تسهم – بقصد أو بدونه – في إبقاء الملف ساخناً على الأجندة الدولية.
السياسات والفاعلون المستفيدون
عندما تُستثمر الهجرة سياسياً، تنشأ سياسات عملية ذات آثار بعيدة: تشديد الحدود، بناء أسوار، اتفاقات لاحتواء المهاجرين في دول ثالثة، وتمويل صناعات أمنية جديدة. أمثلة عملية: حكومة المجر تحت فَيدِس التي سارعت لبناء حواجز حدودية وسياسات اعتُبرت صارمة جداً في 2015–2016، أو الاستخدام السياسي لمفاوضات «الهجرة مقابل مساعدات/تسهيلات» كما فعلت تركيا في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي.
على مستوى العرض، هناك جهات تستفيد مادياً من تضخيم الخطر: شركات الأمن والحدود، جهات استشارية لإدارة الهجرة، ومؤسسات تمويل حملات ضد منظمات المجتمع المدني. كذلك، تتضح ديناميات دولية حيث تستخدم بعض الدول ملف الهجرة كورقة ضغط (مثل بيلاروسيا وإرسالها أحيانًا موجات من المهاجرين نحو حدود شركاء أوروبيين)، ما يبيّن أن الملف ليس داخليًا فقط بل متشابك مع علاقات القوة العالمية.
دراسات وأوراق عمل اقتصادية وسياسية تشير إلى أن تكاليف هذه السياسات (إنسانية ومالية) غالباً ما تكون عالية، وأنها تقلل من القدرة على حلول طويلة الأمد مثل الاستثمار في إدماج المهاجرين أو سياسات سكن ومساكن اجتماعية فعّالة. لذلك نرى انتقالًا من خطاب انتخابي إلى بنية سياسة عامة متغيرة تُكرّس المنطق الأمني بدلًا من المنطق التنموي.
بريطانيا بين التعايش والإقصاء: أي مستقبل للتعددية؟
في أوروبا، باتت قطاعات واسعة تنظر إلى التنوع بوصفه تهديداً، بعدما كان يُحتفى به كجسر للتفاهم. حتى قادة وسطيون مثل أنجيلا ميركل وديفيد كاميرون ونيكولا ساركوزي أعلنوا في العقد الماضي أن "التعددية الثقافية فشلت". هكذا تزايدت شعبية "النزعة الأصلانية" التي تقدم نفسها كبديل عن الاتهامات بالعنصرية، وتؤكد أن الأولوية يجب أن تكون لـ"الأهالي الأصليين" مقابل الوافدين.
بريطانيا اليوم تقف عند مفترق طرق. من جهة، أجيال شابة أكثر انفتاحاً ترى في التعددية الثقافية جزءاً من هويتها. لندن، برمنغهام ومانشستر مدن تُظهر أن التنوع يمكن أن يكون مصدر قوة اقتصادية وثقافية. ومن جهة أخرى، هناك مزاج شعبي يميل إلى الانغلاق ويشعر بالحنين لماضٍ أكثر تجانساً.
الدراسات الأكاديمية البريطانية تؤكد أن مستقبل التعددية مرهون بالسياسات العامة. فإذا تمكنت الدولة من ضمان توزيع عادل للفرص والموارد، ستتراجع جاذبية الخطاب الشعبوي. أما إذا استمرت الفجوة الاقتصادية والثقافية بين الفئات، فإن الشعبوية ستظل قادرة على استثمار الخوف من "الآخر". وهكذا، تصبح قضية الهجرة مرآة لصراع أوسع حول هوية بريطانيا: هل هي بلد منفتح على العالم أم جزيرة تبحث عن عزلة جديدة بعد "بريكست".
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTI0IA== جزيرة ام اند امز