الأزمة هي أننا إزاء مؤسسات تم إقامة أغلبها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتُعبِّر عن الأوضاع والتوازنات التي كانت قائمة وقتذاك.
كتبتُ من قبل في هذا المكان عن تأثير أزمة وباء فيروس كورونا، وحذَّرتُ من المُبالغة في تقدير هذه الآثار، ومنها الحديث عن ولادة نظام عالمي جديد.
وجادلتُ بأن متطلبات تغيير مؤسسات النظام الدولي الراهن غير متوافرة الآن، وضربتُ أمثلة لذلك من خبرتَيْ كل من عصبة الأمم والأمم المتحدة، وحرصتُ على توضيح أن رأيي لا يعني أن النظام الدولي الراهن بخير، بل على العكس فإنه يواجه أزمات عميقة ومع ذلك فإن شروط تغييره لم تكتمل بعد.
نفهم ذلك في ضوء التمييز بين جانبين للنظام الدولي: الأول هو المؤسسات والهيئات التي تمثِّل هذا النظام مثل الأمم المتحدة وهيئاتها ووكالاتها المتخصصة العديدة، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية في المجال الاقتصادي.
فهذه المؤسسات تعبِّر عن التوافق بين الدول الكبرى والمؤثرة في العالم، وهي المسؤولة عن استقرار العلاقات الدولية والحفاظ على الأمن والاستقرار العالمي، والثاني هو واقع العلاقات بين الدول وأنماط التفاعل بينها، والمفترض أنها تكون فى سياق القواعد والنصوص التي أقرَّتها المؤسسات الدولية.
ومن ثَم، فإذا كان الجانب الأول يشير إلى النصوص التي من المفروض العمل وفقا لها والتي تتسم بالثبات، فإن الجانب الثاني يشير إلى واقع العلاقات والتفاعلات الدولية التي تتسم بالتطور والتغيير.
وتنبع أزمة النظام الدولي الراهن من أن النصوص التي تحكم مؤسساته لم تعُد تُعبِّر عن واقع النظام الدولي، وأنماط سلوك الدول الكبرى والتوازن بينها، وبالذات في المجالين السياسي والاقتصادي، والأزمة هي أننا إزاء مؤسسات تم إقامة أغلبها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتُعبِّر عن الأوضاع والتوازنات التي كانت قائمة وقتذاك والتي لم يعد لها وجود الآن.
فعلى سبيل المثال، في المجال السياسي قامت الأمم المتحدة على أساس استمرار التحالف العظيم بين الدول المنتصرة في الحرب وهي أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين، ولهذا، أعطى الميثاق هذه الدول الخمس حق النقض في مجلس الأمن.
أما ما حدث في الواقع، فإن هذا التحالف سرعان ما انهار ونشبت الحرب الباردة بين المعسكريْن الغربي والشرقي، واستخدمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق حق النقض لمنع تمرير القرارات التي لا توافق عليها، مما أدى إلى عجز المجلس عن القيام بمهامه.
الأزمة هي أننا إزاء مؤسسات تم إقامة أغلبها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتُعبِّر عن الأوضاع والتوازنات التي كانت قائمة وقتذاك والتي لم يعد لها وجود الآن.
ومع أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة حاولت إصلاح هذا الشأن بإصدار قرار"الاتحاد من أجل السلام" في عام 1950، والذي يقضي بحق الجمعية العامة بالنظر في الأمور التي يفشل مجلس الأمن في التعامل معها، فان القرار لم يُغيِّر كثيرا باعتبار أن الجمعية العامة لا تُصدر سوى توصيات، أما مجلس الأمن فهو الجهة التي تمتلك سلطة إصدار القرارات واتخاذ الإجراءات العملية اللازمة لتنفيذها لحماية نظام الأمن الجماعي الذي أقامه الميثاق.
يؤكد ذلك أن الميثاق وصف ألمانيا وإيطاليا واليابان " بالدول الأعداء" وذلك في المادة 62 (الفقرة 2). تغير هذا الوضع أيضا، وأصبحت هذه الدول أطرافا في المعسكر الغربي، وانضمت إيطاليا وألمانيا إلى حلف الأطلنطي.
والنتيجة أنه بينما أصبح الأعداء حلفاء، فان روسيا والصين أصبحتا من الخصوم، وورد هذا التوصيف للبلدين فى أحدث نسخة من وثيقة الأمن القومي الأمريكي الصادرة في ديسمبر 2017.
وعلى سبيل المثال أيضا، ففي المجال الاقتصادي تغيرت موازين الثروة والموارد بشكلٍ حاسم، فبعد أن كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية تشغل قمة الاقتصاد العالمي فإن الصين تقدمت بشكلٍ حثيث في العقود الأربعة الأخيرة لتنافس أمريكا على موقع الصدارة، وفي نسبة مساهمتها في إجمالي الناتج العالمي. وأصبحت الصين بحق هي "مصنع العالم" الذي يصدِّر منتجاته إلى كل الدنيا.
شارك الصين في هذا التقدم عدد من الاقتصادات الآسيوية حتى إن بعض الباحثين يرون أنه إذا كان القرن التاسع عشر قرنا أوروبيا، والعشرون أمريكيا، فإن القرن الحادي والعشرين هو "القرن الآسيوي".
ويُدللون على ذلك بالمكانة التي تشغلها آسيا وفقا لعدد من المؤشرات: فعدد سُكانها يبلغُ 5 مليارات نسمة أي ثلثي إجمالي سُكان المعمورة، وأن ثلثي عدد المُدن الكُبرى في العالم mega cities تقع فيها، وتُساهم بثلث الناتج العالمي الإجمالي، وثلثي مُعدل النمو الاقتصادي فيه، وتمتلك 6 من أكبر عشرة بنوك في العالم، و 8 من أكبر جيوش العالم، وفيها 4 دول تمتلك أسلحة نووية، وتحظى بقدرات هائلة في مجال الابتكار التكنولوجي والجامعات المُتقدمة وذلك حسب البيانات الواردة في كتاب المؤلف الهندي "باراك خانا" بعنوان "المُستقبل آسيوي" الصادر في فبراير 2019.
وإذا ربطنا قوة الصين الاقتصادية مع تعاظم القُدرات العسكرية الروسية، والتحالف الاستراتيجي بين البلدين فإنهما يمثلان "قوة موازنة" في مواجهة الولايات المتحدة.
وعلى سبيل المثال أخيرا، فقد قامت الولايات المتحدة والدول الغربية بفرض أفكار ومفاهيم في العلاقات الدولية تخالف بشكل مباشر وصريح المبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، فبينما نصت المادة 2 (فقرة 1) من الميثاق على أن الأمم المتحدة تقوم على مبدأ "المساواة في السيادة"، وأكدت ( فقرة 7) على مبدأ "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول"، فإنه بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991 وانفراد أمريكا بقيادة العالم، تم طرح أفكار جديدة تخالف هذين المبدأين تماما، مثل "حق التدخل الإنساني" و "مسؤولية الحماية" ، وذلك بدعوى حماية الأقليات واحترام حقوق الإنسان، ونشر الديمقراطية.
وقامت الدبلوماسية الأمريكية بتبرير حق استخدام القوة المسلحة والتهديد بها بشكل يخالف الميثاق، الذي نص في المادة 2 (فقرة 4) على عدم جواز استخدام القوة المسلحة أو التهديد بها إلا في الحالات التي نص عليها، وأن يكون التدخُل بموافقة مجلس الأمن.
وبالمُخالفة لذلك قامت الولايات المتحدة في عدد من الحالات باستخدام القوة المسلحة، إما منفردة أو في إطار تحالف دولي بدون موافقة مجلس الأمن، مثل العمل العسكري ضد السودان في أغسطس 1998، واستخدام حلف الأطلنطي القوة المسلحة ضد كوسوفا في نفس العام، والغزو العسكري للعراق في مارس 2003.
و تدخلت أمريكا عسكريا في العراق واحتلت أراضيه رغم عدم موافقة مجلس الأمن على هذا التدخُل، كما جاء هذا التدخُل مخالفا لحكمٍ أصدرته محكمة العدل الدولية بشأن التدخُل الأمريكي في نيكاراجوا عام 1986، والذي رفض رفضا كاملا مبررات هذا التدخُل مؤكدا على أن اختيار نظام الحكم بغض النظر عن شكله في أي بلد هو شأن داخلي.
تبدو إذا أزمة النظام الدولي جلية، وهي ليست بنت اليوم وإنما ثمرة تطور تاريخي كان جوهره التباعد المضطرد بين "التنظيم الدولي بمؤسساته ونصوصه" و"الواقع الدولي بتطوراته وتغيراته المتلاحقة". وأضافت أزمة وباء الكورونا الراهنة أبعادا جديدة لهذه الأزمة.
الصين التي طرحت من سنوات مفهوما مغايرا للعولمة الغربية وهو "الحزام والطريق" تسعى الآن لاستثمار قدراتها الصناعية والتكنولوجية لطرح نظامها السياسي والاقتصادي كنموذج للكفاءة ولدعم موقعها في العالم.
وتواجه أمريكا هذا التطلع الصيني بمزيد من الاتهامات لها بالمسؤولية عن انتشار وباء الكورونا، والتهديد برفع دعاوى قضائية ضد قادتها، وزيادة القيود على حركة عملاق الاتصالات الصيني "هواوي" والتي أعلنتها وزارة التجارة الأمريكية في 17 مايو ووصفتها وزارة التجارة الصينية بأنها "قمع غير مُبرر".
فهل تستمر هذه المواجهة بين البلدين ويكونُ من شأنها مزيد من إضعاف مؤسسات النظام الدولي الحالي أم أنه سوف يتم احتواؤها بحُكم المصالح المشتركة بينهما، وتستمرُ أزمة النظام الدولي كما هي؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة