تسير الإمارات على خطى البلدان المتقدمة والمتطورة في تقييمها لأصحاب المواهب والإبداع.
كان من دواعي سروري أن أكون من ضمن حملة البطاقة الذهبية الذين تمت دعوتهم إلى ندوة "الإقامة الذهبية وكتابة المستقبل" التي ناقشها مهرجان طيران الإمارات للآداب بتاريخ الرابع من فبراير الجاري، وأعجبتني كثيراً النظرة المستقبلية القائمة على جذب المواهب والخبرات. وخطرت في ذهني تجارب عالمية ناجحة في العالم وعلى وجه الخصوص في كل من فنلندا وفرنسا. ففي فنلندا تقدم للمواهب الأجنبية فرصة اختبار الحياة في عاصمتها لمدة 90 يوماً، من أجل جذب المزيد من المحترفين البارعين إليها، خاصة في مجال التكنولوجيا ضمن برنامج حزمة الانتقال إلى فنلندا. وكذلك في فرنسا، أُنشئت بطاقة الإقامة متعددة السنوات، لرعاية المواهب الدولية والجاذبية الاقتصادية تحت عنوان "جواز سفر موهبة"، لتسهيل استقرار الأجانب العاملين بالأجر أو بغير أجر ممن يرغبون في المساهمة في تنمية الاقتصاد، بحيث لا يتجاوز عقد العمل أو مدة الإقامة ثلاثة أشهر، وغيرها من الحوافز في بلدان متعددة أخرى تتصدرها أمريكا وكندا.
وهناك بلدان عديدة تعمل على جذب المواهب والخبرات وأفضل المهنيين الأجانب، من خلال التركيز على بناء قوى عاملة خبيرة من أجل مواكبة الطلب المتزايد، خاصة في قطاع التكنولوجيا المتطورة في مجالات معينة مثل: الأمن السيبراني، أي حماية الأنظمة والشبكات والبرامج من الهجمات الرقمية، وتكنولوجيا الفضاء، والصحة، والألعاب والحوسبة.
وبمرور الزمن، أصبحت لهذه المواهب والخبرات منزلة كبيرة في تلك البلدان وأسهمت في تنميتها ورقيها، وسطعت في هذه التجارب: سان فرانسيسكو ولندن وسنغافورة بقوة جذبها وفاعليتها وحوافزها.
في الحقيقة إن انتقال الكوادر والموارد البشرية العاملة والمعرفية بين أنحاء العالم كان ولا يزال قائماً منذ أقدم العصور، ثم أصبح المحرك الأساسي لاقتصاد ما سمي مؤخراً "اقتصاد المعرفة" في زمن العولمة، رغم تناقص هذا الانتقال أثناء جائحة كورونا.
كما أسلفت أن هذه الجلسة الحوارية التي أقيمت تحت عنوان "الإقامة الثقافية وكتابة المستقبل" شارك فيها مدير عام الإقامة والهجرة اللواء محمد أحمد المري، ومدير عام هيئة دبي للثقافة الفنون، هالة بدري، وعبرت عن عمق الطروحات التي جاءت ضمن مبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، لجعل دبي مركزاً عالميا للثقافة والإبداع، وملتقى للمواهب من الأدباء والمفكرين والباحثين والفنانين الإماراتيين والعرب من مختلف أنحاء العالم، بما ينسجم مع استراتيجية دولة الإمارات لخلق مجتمع منسجم ومستدام، والإسهام في الاقتصاد الثقافي. وهذا هدف استراتيجي تفخر به الإمارات على المدى الطويل.
ترى هالة بدري أنه قبل إطلاق هذه المبادرة، تمت الاستعانة بدراسات معيارية ومقارنات للعديد من الإقامات الثقافية حول العالم، لكن أغلبها كان عبارة عن إقامات قصيرة المدى، ولا تسهم في خلق استدامة العمل الإبداعي، ومنها تأشيرة الإقامة الثقافية في بلد مثل اليابان، التي لا تتجاوز 18 شهراً، وتركز على الأنشطة والفعاليات الثقافية، وتأشيرة الإقامة الثقافية في ألمانيا التي لا تتجاوز ثلاثة أشهر، وكذلك تأشيرة التبادل الثقافي قصيرة المدى في الولايات المتحدة الأمريكية. أما المبادرة الإماراتية في هذا المجال، فيتم من خلالها منح تأشيرة الإقامة الذهبية الدائمة 10 سنوات لأصحاب المواهب الإبداعية، في مجالات الأدب والثقافة والفنون التشكيلية والأدائية والتصميم، وكذلك الدراسات التراثية والتاريخية والمعرفية والفكرية والصناعات الإبداعية، وأصحاب الاختصاصات في الحقلين الفكري والمعرفي، وغيرها من الشروط التي تكفل تجديدها تلقائياً من دون الحاجة إلى كفيل إماراتي.
ويتعهد حملة البطاقة الذهبية بالإسهام بوقف "36" ساعة في خدمة مجتمع الإمارات مثل إقامة الورش بالنسبة للكتّاب أو المشاركة في المعارض الفنية للفنانين وغير ذلك من الأنشطة.
ويؤكد محمد أحمد المري أن البطاقة الذهبية للإقامة في الإمارات تعمل على تعزيز قيم التعددية الثقافية والاجتماعية، مشيراً إلى أن دولة الإمارات أصبحت بيئة جاذبة لفئة المبدعين، وهو ما يكتسب بُعداً استراتيجياً قادراً على مواجهة التحديات المتعددة والوصول إلى المستقبل بأمان، وأن البلد الذي لا يوجد فيه مثقفون وعلماء ومهندسون، هو بلد خاوٍ لا يتمتع بأي مقومات نجاح، لأن وجود المثقف مهم في المجتمع الذي يجب ألا يعتمد على المال كعصب رئيسي للحياة، على حد قوله. وأكثر من ذلك تم تحويل الثقافة إلى معيار لترقية الموظفين في مؤسسته من خلال إنشاء مكتبة في مقر الهجرة والجنسية.
ما لفت انتباهي أن يتحدث مسؤولون رسميون، خاصة في مجال الهجرة والجنسية، بمنطق الثقافة والعلم والموهبة، والاعتراف بها كمعيار، حيث إن المتحدثين في دبي للثقافة وإقامة دبي أكدا على معيار الثقافة والإبداع من خلال توفير إقامة دائمة، ومزايا غير مسبوقة لحملة البطاقة الذهبية بهدف تكريس مناخ فاعل ومحفز على النمو والنجاح.
وهذا ما يساعد على إنجاز أهدافها المعرفية والحضارية في بلد كالإمارات. إذ تمتلك الإمارات بنى تحتية ثقافية قوية، من مكتبات عامة ومسارح ودور نشر وأوبرا ومعارض كتب، وفعاليات ثقافية تتجاوز 2300 فعالية سنوياً، فهي بحاجة إلى إسهامات المبدعين في رفد المشهد الثقافي في الدولة، وهو ما يعكس الرؤية الحكيمة التي جاء بها الشيخ بن سلطان آل نهيان زايد رحمه الله في تعزيز البيئة المشجعة للإبداع، وترسيخ منظومة تنموية تتميز بالاستقرار، وإشراك أصحاب الأفكار الاستثنائية ليكونوا شركاء دائمين في مسيرة التنمية والازدهار.
إن القرار، بكل ما يحمل من رؤية مستقبلية عميقة، يُعد مشروعاً وطنياً شمولياً هدفه النهوض بالنمو الاقتصادي، ويسهم في بناء مجتمع مستدام وإعداد الموارد البشرية المؤهلة والماهرة في بناء هذا المستقبل.
إن السير على خطى البلدان الحضارية والمتطورة وإيجاد صيغة أكثر ديمومة وتطوراً في التعامل مع أصحاب المواهب والخبرات يجسد الوعي والإدراك وتقييم الثقافة كمعيار نفيس كما قال جاك لانغ إن اللغة العربية كنز لفرنسا، فإن أصحاب المواهب والخبرات العربية والأجنبية كنز للإمارات العزيزة كما هي وطن وبيئة للإبداع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة