تعود قضية تصنيع أشباه الموصلات إلى الصدارة مع النقص الكبير الحادث في الرقائق اللازمة لصناعة السيارات.
ما دفع العديد من المنتجين في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية إلى خفض إنتاجهم من السيارات.
والواقع أن رقائق أشباه الموصلات أصبحت منذ العام الماضي قضية أمن قومي في كل من الولايات المتحدة والصين. فالولايات المتحدة التي تعد رائدة الابتكار في هذه الصناعة تضاءل التصنيع فيها إلى حد كبير، وتركت هذه المهمة إلى منتجين آخرين مثل تايوان وكوريا الجنوبية. ويرى البعض أن هذا الاتجاه يعرّض الأمن القومي الأمريكي للخطر في صناعة مهمة تقع في قلب كل التكنولوجيات الجديدة.
أما في الصين فقد ظهر الانكشاف الصيني الكبير في هذا المجال مع فرض إدارة الرئيس ترامب قيودا تتعلق بحرمان الشركات التكنولوجية الصينية الكبرى من الحصول على أشباه الموصلات المنتجة في الولايات المتحدة أو المنتجة في أماكن أخرى من العالم، استنادا إلى التكنولوجيا الأمريكية. وإزاء هذا الانكشاف تتبنى الصين الآن استراتيجية للاعتماد التكنولوجي على الذات خاصة في مجال أشباه الموصلات.
الولايات المتحدة.. توطين التكنولوجيا والصناعة
قالت جين بساكي السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض إن إدارة بايدن تعمل على معالجة النقص العالمي في أشباه الموصلات الذي تسبب في توقفات في بعض الصناعات مثل صناعة السيارات وغيرها.
وقد حددت الإدارة نقاط الاختناق في سلاسل الإمداد وناقشت طريقا فوريا للمضي للأمام مع شركاء الأعمال والشركاء التجاريين. وفي المدى الأطول، يتطلع صناع السياسة إلى وضع استراتيجية شاملة لتجنب الاختناقات والقضايا الأخرى التي واجهتها صناعة أشباه الموصلات لسنين.
ومن المتوقع أن يوقع الرئيس جو بايدن على أمر تنفيذي يوجه الحكومة لمراجعة واسعة لسلاسل الإمداد لسلع حيوية خلال الأسابيع القليلة المقبلة، مع الوضع في الاعتبار نقص رقائق أشباه الموصلات كقضية مركزية في هذا التدقيق.
وسوف يلزم هذا الأمر التنفيذي بمراجعة تمتد لمدة 100 يوم من قبل مجلس الاقتصاد القومي ومجلس الأمن القومي للتركيز على صناعة أشباه الموصلات والمعادن الحيوية، والمستلزمات الطبية والبطاريات ذات القدرات العالية، مثل تلك البطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية.
وهناك تقديرات لموقف سلاسل الإمداد متوقع التوصل إليها خلال عام، لتركز على المنتجات الحرجة -المواد والتكنولوجيا والبنية الأساسية- والمواد الأخرى المرتبطة بالدفاع، والصحة العامة، والاتصالات، والطاقة والنقل.
وطالبت صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة الرئيس بايدن بدعم الإنتاج المحلي. وقد كتب الرؤساء التنفيذيون لشركات أشباه الموصلات بما في ذلك كبرى الشركات مثل شركة إنتل، وشركة كوالكوم، وشركة المعدات المتقدمة خطابا ناشدوا فيه الرئيس دعم الإنتاج المحلي وإيقاف مضي البلاد نحو فقدان ريادتها في الابتكار.
وقد طالب الرؤساء التنفيذيون الذين يشغلون مجلس إدارة اتحاد صناعة أشباه الموصلات الرئيس بايدن بأن يضمن خططه للإنعاش الاقتصادي والبنية التحتية "تمويلا وتحفيزا على تصنيع أشباه الموصلات، وأن يكون هذا متاحا في شكل منح وإعفاءات ضريبية".
وقد سلط الخطاب الموجة للإدارة والذي وقعه 21 من الرؤساء التنفيذيين لشركات أشباه الموصلات الضوء على حقيقة أن النصيب الكلي للولايات المتحدة في صناعة أشباه الموصلات عالميا قد انخفض إلى 12% بعد أن كان 37% في عام 1990.
ووفقا لتقرير أعده اتحاد صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة في العام الماضي فإنه ينبغي على الحكومة الفيدرالية أن تقدم ما بين 20 و50 مليار دولار لجعل البلاد مكانا جذابا لتوطين المشروعات مثلها في ذلك مثل تايوان، والصين، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة وإسرائيل وبعض الأماكن في أوروبا. ويذكر التقرير أن الفشل في هذا الصدد يهدد قيادة الولايات المتحدة لهذا القطاع ككل.
وغالبا ما تلجأ الشركات الأمريكية إلى تعهيد الإنتاج لشركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات، وشركة سامسونج للإلكترونيات الكورية الجنوبية. وقد أصبحت رقائق أشباه الموصلات موضوع أمن قومي مع تصاعد النزاع بين الولايات المتحدة والصين، حيث تستثمر الصين بكثافة لتوسيع صناعة رقائق أشباه الموصلات لديها.
وذكرت نقابة عمال صناعة السيارات أنها تتطلع لإدراج قضية نقص رقائق أشباه الموصلات بالتنسيق مع إدارة الرئيس بايدن والكونجرس ومنتجي أشباه الموصلات ومصنعي السيارات، خاصة شركة مثل جنرال موتورز التي أعلنت أنها تقوم حاليا بتوسيع مؤقت للإغلاق في ثلاثة من مصانعها لتجميع السيارات.
وقالت نقابة العمال إن النقص يظهر الحاجة إلى زيادة التصنيع المحلي للأجزاء الحيوية الأساسية. وأضافت "بينما نبحث عن حلول في الأمد القصير لهذه المشكلة العاجلة، فنحن ندعو أيضا إدارة بايدن والكونجرس لتطوير حلول تجارية وسياسية للتأكد من إعادة التكنولوجيا المتقدمة التي تم إمداد الخارج بها ليتم الإنتاج بواسطة العمال هنا في الولايات المتحدة".
الصين.. سعي نحو الاعتماد التكنولوجي على الذات
تأخذ الصين خطوات حاسمة لحماية نفسها من الحظر التكنولوجي الأمريكي المتسع، حيث ارتفعت الواردات من رقائق أشباه الموصلات والآلات التي تقوم بصنعها خلال العام الماضي.
فقد اشترت دوائر الأعمال الصينية من اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان ومن أماكن أخرى ما قيمته 32 مليار دولار من معدات صناعة رقائق أشباه الموصلات المستخدمة في صناعة الكومبيوتر، وتزيد هذه القيمة بمقدار 20% عما تم شراؤه في عام 2019.
وفي حالة شركات مثل هواوي للتكنولوجيا قفزت الواردات لتخزين الإمدادات من رقائق الكومبيوتر مستبقة الحظر الأمريكي لتبلغ نحو 380 مليار دولار أي نحو 18% من إجمالي الواردات الصينية خلال العام الماضي.
وقد حظرت الولايات المتحدة بشكل مطرد وصول الشركات الصينية للتكنولوجيا الأمريكية، ما دفع بكين إلى مضاعفة جهودها لتنمية صناعة رقائق أشباه الموصلات محليا بعد سنوات من التطور البطيء في هذا الشأن. وقد عرضت تصرفات إدارة الرئيس ترامب الصين للخطر في هذا القطاع الحيوي، وحتى مع الرئيس بايدن الآن تدفع الصين بقوة خطة جديدة شاملة لكي تصبح معتمدة على الذات في أشباه الموصلات.
وتظل الصين في المدى القريب معتمدة على الواردات من أجل دفع صناعتها لأشباه الموصلات. فليس لدى الصين حتى الآن القدرة على تصنيع معدات تصنيع أشباه الموصلات الراقية التي تحتاجها. وتستثمر الصين بكثافة في هذا القطاع، لكن النجاح كما يرى الخبراء يتطلب بذل الجهد على مدى أكثر من عقد من الزمن.
وقد سرعت الشركات الصينية مثل الشركة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات من شرائها للآلات التي تعتمد عليها في صنع رقائق السليكون ورقائق الكمبيوتر. وأصبحت الصين أكبر سوق لمثل هذه الآلات في عام 2020، طبقا لتقرير صدر في ديسمبر عن اتحاد الصناعة.
وقد ارتفعت واردات شركة هواوي وشركات التكنولوجيا الصينية الأخرى لتخزين الرقائق قبل فرض القيود الأمريكية بنسبة 14% في عام 2020. وكانت حكومة الولايات المتحدة قد وضعت شركة هواوي في القائمة السوداء لمنعها من شراء الرقائق والمكونات الأخرى التي تحتاجها لصناعة الهواتف الذكية ومعدات الاتصالات من الموردين الأمريكيين. وقد قيدت إدارة ترامب القواعد حتى بشكل أكبر لتمنع أي شركة تستعمل المعدات الأمريكية من توريد الرقائق لهواوي.
وقد ارتفعت مشتريات الصين من الرقائق أيضا بسبب الطلب العالمي القوي على الكمبيوترات والمعدات الأخرى اللازمة للعمل من المنزل بعد تفشي الجائحة. فجزء كبير من الرقائق تستوردها الصين من أجل استخدامها في صناعة معدات تمتد من الهواتف الذكية إلى الكمبيوترات التي يتم بعدئذ تصديرها.
وكانت تايوان أحد الفائزين بهذا الارتفاع في الطلب الصيني على الرقائق. وكان صعود هذا الطلب قد ساهم كذلك في النقص العالمي من الرقائق المستخدمة في صناعة السيارات، مجبرا بعض مصانع السيارات على إيقاف الإنتاج.
ومن المنتظر أن يستمر الطلب في الزيادة خلال العام الحالي، مع توقع اتحاد صناعة أشباه الموصلات في ديسمبر أن ترتفع مبيعات الرقائق العالمية بمقدار 8.4% هذا العام، وهو ما يستمر في إفادة شركات مثل شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، وشركة إنتل، وشركة سامسونج. وسوف تستمر الشركات الصينية أيضا في شراء المعدات مع سعيها لتصنيع المزيد من رقائق أشباه الموصلات بنفسها، وهو ما يساعد مبيعات شركات مثل شركة طوكيو إلكترون المحدودة وغيرها.
ومن المتوقع أن تقدم الصين على نهج أكثر توازنا فيما يتعلق بوارداتها من الرقائق، حيث ستعهد بالحصول على الرقائق الراقية التي لا تستطيع تصنيعها إلى البائعين العالميين. لكنها سوف تعمل في الوقت نفسه أيضا على وضع الاستثمارات الكفيلة بزيادة توطينها لصناعة هذه الرقائق. أما إلى أي مدى سيستمر الاعتماد على المصادر الأجنبية فيبقى أمرا مرهونا بمدى نجاح الصين وسرعتها في تنمية الاعتماد على الذات في صناعة أشباه الموصلات.
وسوف تعلن الحكومة الصينية في شهر مارس المقبل تفاصيل خطتها الخمسية الجديدة 2021-2025، وكان بالفعل قد أُعلن أن الخطة تتضمن هدف تحقيق الاعتماد على الذات في مجال التكنولوجيا بوصفه هدفا استراتيجيا قوميا. وفي القلب من هذا الهدف يأتي هدف تصنيع رقائق أشباه الموصلات محليا، وخفض الاعتماد على المعرفة الفنية الأجنبية. وهذا بدوره قد يعني أن الشركات الأجنبية المصنعة لأشباه الموصلات، والآلات التي تقوم بصنعها، قد تخسر حصتها في السوق الصيني.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة