بدأت القصة عندما أعلن الرئيس التركي أردوغان أنه سيزف بشرى سارة للشعب التركي يوم الأربعاء (العاشر من الشهر الجاري).
جاء الموعد ولم يتحدث أردوغان بكلمة واحدة، وهو الموعد الذي أعلن الجيش التركي فيه عن بدء "عملية النسر 2" في جبال كارا بكردستان العراق.
بعد أربعة أيام من بدء العملية التركية، أعلن آكار عن انتهاء العملية، واستفاق الأتراك ومعهم العالم على وقع خبر مقتل 13 عنصرا من قوات الشرطة والاستخبارات التركية، كان أسرهم حزب العمال الكردستاني خلال عامي 2015 و2016، فما الذي جرى؟ وكيف؟ وكيف ستكون تداعيات هذه الحادثة على الساحة التركية؟ فور إعلان مقتل هؤلاء، قالت الصحافة التركية إنهم مدنيون قتلوا برصاص حزب العمال الكردستاني الذي سارع بدوره إلى القول إن هؤلاء قتلوا في قصف للطائرات التركية التي كانت تهاجم المنطقة.
بين الروايتين جرت نقاشات كثيرة في الساحة التركية، بين الرواية الرسمية التركية التي قالت إن حزب العمال الكردستاني هو من قتلهم، وطالبت العالم بالوقوف إلى جانب تركيا في حربها ضد حزب العمال الكردستاني، بوصفه تنظيما إرهابيا، وبين الرواية التي سربتها أوساط داخل المؤسسة العسكرية التركية للإعلام، ومفادها بأن هؤلاء قتلوا في قصف لطائرات تركية، في إطار الصراع على النفوذ، وتصفية الخصوم داخل المؤسسة العسكرية والأمنية، وهو ما أعاد الجميع إلى السيناريو الذي قتل فيه هؤلاء.
تقول رواية الذين سربوا الخبر إن وزير الدفاع خلوصي آكار أخبر أردوغان مسبقا بوجود فرصة أكيدة لتحرير هؤلاء الأسرى خلال عملية عسكرية دقيقة أعد لها منذ خمسة أشهر في جبال كارا، وعلى هذا الأساس خرج أردوغان للإعلام ليعلن أنه سيزف البشرى السارة في الموعد المذكور.
يؤكد أصحاب الرواية، التي تقول إن هؤلاء قتلوا بقصف تركي، أن عملية تضليل استخباراتية دقيقة جرت، وربما كان الهدف، هو وزير الدفاع آكار ومن خلفه أردوغان، وهنا يجري الحديث عن روايتين:
الأولى: إن الكتلة التي تعرف بـ"الأوراسية" داخل المؤسسة العسكرية والاستخباراتية التركية أرادت توجيه ضربة قوية لآكار، بعد أن تمعن الأخير في إقصاء نفوذ هذه الكتلة، وأقصى كبار قادتها من مراكز النفوذ داخل المؤسسة العسكرية لصالح ما يعرف بالكتلة "الأطلسية"، وأن هواجس هذه الكتلة ازدادت مع الأخبار التي تحدثت عن قرب تغييرات كبرى في قيادة الجيش والأمن، وتوفر معلومات عن إقصاء المزيد من هؤلاء، وعليه قام قادة من هذه الكتلة بتسريب معلومات وإحداثيات مغلوطة عن مكان هؤلاء الأسرى، فتم قصفهم وقتلهم بالخطأ، لتكون العملية بمثابة هزيمة شخصية لآكار.
وهنا يتذكر الجميع ما عرف بمجزرة روبوسكي التي حصلت على الحدود التركية العراقية عام 2011، عندما قتل العشرات من المدنيين الأكراد في قصف لطائرات تركية بالخطأ نتيجة لمعلومات مضللة، أكدت أن هؤلاء من مسلحي حزب العمال الكردستاني، وينوون تنفيذ عملية ضخمة ضد الجيش التركي، قبل أن يكتشف الجميع أنهم مدنيون. الثانية: إن حزب العمال الكردستاني نجح في اختراق شبكات تجسس تركية، وضلل هذه الشبكات بمعلومات خاطئة، وعلى هذا الأساس جرى القصف التركي، وسبق أن أسر حزب العمال الكردستاني ضابطين تركيين رفيعين في عملية تضليل استخباراتية، عندما نجح في أسرهما بريف السليمانية، كانا قد قدما إلى هناك مع مجموعة من العناصر الأمنية التركية في مهمة لاعتقال جميل بايق الذي يقود الحزب الكردستاني من جبال قنديل، وذلك بعد أن سرب الحزب أن بايق سيذهب إلى مستشفى في السليمانية للمعالجة الطبية، وكان أحد هؤلاء الأسرى، مسؤول ملف حزب العمال الكردستاني في الاستخبارات التركية، والثاني نائب رئيس العمليات في الاستخبارات.
بغض النظر عن صحة أي من الروايتين من عدمها، فإن ما جرى في كارا شكل ضربة قوية لنظام أردوغان، إذ للمرة الأولى تُمنى عملية عسكرية تركية بمثل هذا الحادث الذي أثار وقع الصدمة في الشارع التركي، وهذا ما يمكن معرفته من ردود فعل أردوغان، إذ فور إعلان مقتل هؤلاء أطلق أردوغان نيرانه في كل الاتجاهات. ففي الداخل التركي، شن أوسع حملة ضد المعارضة التركية إلى درجة أنه اتهمها بدعم الإرهاب، وكان النصيب الأكبر من الحملة ضد حزب الشعوب الديمقراطي، إذ خلال يوم واحد تم اعتقال قرابة ألف شخص من عناصره وقياداته وسط تلميح صريح بحظره. وفي الخارج اتجه أردوغان إلى مطالبة واشنطن بإدانة حزب العمال الكردستاني، ودعمه في الحرب ضدها، إلا أن الموقف الأمريكي جاء صادما لأردوغان، عندما ربطت واشنطن إدانة الحزب الكردستاني بتوفر أدلة على تورطه في قتل هؤلاء، وهو ما دفع بأردوغان إلى اتهام واشنطن بدعم الإرهاب، واستدعاء أنقرة للسفير الأمريكي لديها للاحتجاج، وعلى وقع كل ذلك عدلت واشنطن من موقفها، وحملت الحزب الكردستاني المسؤولية دون الإدانة.
في جميع الأحوال، ما جرى، شكل ضربة قوية لآكار وأردوغان، وهو ما دفع بالأخير إلى المزيد من التصعيد، والتهديد بالمزيد من العمليات العسكرية في سنجار وقنديل وشمال شرقي سوريا، في تأكيد على الاستمرار في النهج العسكري، ذلك النهج الذي لم يجلب للأتراك والأكراد وغيرهم من شعوب المنطقة سوى المزيد من الدمار والدماء وهدر الأموال والإمكانات.. فيما الغريب أنه بعد قرن من اعتماد هذا النهج العسكري وفشله، ألا يأخذ الحل السياسي طريقه إلى المشهد، ويتقدم على كل ما سبق، لا بوصفه مدخلا وحيدا لحل القضية الكردية في تركيا فحسب، بل لأنه يشكل ضمانة للتنمية والاستقرار والنمو والتعايش السلمي، تطلعا إلى المستقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة