منذ عدة عقود بدأت ظاهرة أخرى تشغل حيزاً كبيراً من الاهتمام السياسى وهى ظاهرة التعددية الثقافية فى المجتمع.
التنوع الثقافى ظاهرة تتعلق بالمجتمعات الحديثة، وهى ناتجة عن الاعتراف بحرية الأفراد فى الاعتقاد، وكذلك حريتهم فى التعبير عن أرائهم. وهكذا يتشكل فى المجتمع تيارات سياسية تتنوع بين الليبرالية والاشتراكية، وتيارات فكرية تتراوح بين المادية والروحية . وتضم هذه التيارات بداخلها أفرادا من كل فئات المجتمع وطبقاته، رجالاً ونساءً، أغنياءً وفقراء.
ولقد بينت التجارب التاريخية أن هذا التنوع مصدر قوة للمجتمع لأنه يكون بمثابة رصيد فكرى يواجه به المجتمع الأزمات التى تسببها ظروف موضوعية، وتفرضها دون إختيار من أحد. وأهم سمة تميز التنوع الثقافى هو أنه ناتج عن اختيار حر من الأفراد.
منذ عدة عقود بدأت ظاهرة أخرى تشغل حيزاً كبيراً من الاهتمام السياسى وهى ظاهرة التعددية الثقافية فى المجتمع.توهى تختلف عن التنوع الثقافى فى أنها تتعلق بمجموعات وليس بأفراد، وتتخذ هذه التعددية فى العادة مظهرين: مظهر يخص ثقافة الأقليات العرقية واللغوية والدينية داخل المجتمع، ومظهر آخر يتعلق بثقافة المجموعات المهاجرة حديثاً إلى مجتمع مستقر.
بالنسبة للمجموعة الأولى كانت الدولة القومية تفرض عبر التعليم والإعلام ثقافة قومية عامة على جميع السكان، وتسعى إلى تهميش ثقافة الأقليات بحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية، أما الآن فهناك ميل متزايد إلى فتح مجال للتعبير عن ثقافة الأقليات وفنونها وتدريس لغاتها بالمدارس مثل ثقافات إقليم الألزاس وإقليم بريتانيا فى فرنسا ولغة البربر فى شمال أفريقيا. فقد تبين أن هذا المسلك يزيل الضغائن من قلوب المواطنين المنتمين لهذه الأقليات ويعلى من شأنهم فيسمح باندماج أكبر ومشاركة متحمسة فى المجال العام .
أما فيما يخص الثقافات الوافدة حديثاً مع موجات الهجرة، فقد كان مسلك الدول القومية العريقة فى السابق يعتمد على فكرة أن تصبر الدولة المستقبلة للهجرة جيلاً أو جيلين ثم يتبنى أطفال المهاجرون المولودون على أرض المهجر الثقافة السائدة فى المجتمعويندمجون اجتماعياً. ولكن توجد الآن مجتمعات تتشكل أساساً من موجات الهجرة ولا يوجد فيها ثقافة سائدة. من بين هذه المجتمعات كندا وأستراليا. وهنا يكون المسلك مختلفاً، فيدعو الفيلسوف الكندى تشارلز تايلور إلى ضرورة إضافة حق جديد إلى حقوق الإنسان يطلق عليه «الحق فى الأصالة». فالوافد الجديد، فى نظره، ليس ملزماً بأن يدير ظهره لثقافته الأصلية كى يحصل على حقوقه كمواطن.
ولكن تجاور هذه الثقافات المختلفة بل والمتنافرة أحياناً قد يمثل خطراً على التماسك الاجتماعى ولهذا يرى أنصار الاعتراف بالتعددية الثقافية أنه ينبغى وضع ضمانات ثلاث تحمى المجتمع من الصراع والتمزق: الضمانة الأولى هى ألا يعنى الاعتراف بالاختلاف الثقافى تسامحاً بشأن تصرفات تعد فى نظر القانون جرائم مثل ختان البنات وتعدد الزوجات والتمييز فى الميراث بين الجنسين والتحريض على جماعات أخرى؛ والضمانة الثانية هى ألا يترتب على الاعتراف بالتعددية الثقافية إنتقاصاً من حقوق الإنسان، مثل الحق فى الملكية وحرية التفكير والاعتقاد وحرية الشاب أو الفتاة فى إختيار شريك حياته. أما الضمانة الثالثة هى ألا يعرقل هذا الاعتراف العملية الديمقراطية، فلا يمكن أن ينوب شيخ الطائفة فى التصويت عن باقى أفراد طائفته ولا يمكن التسامح مع الدعوة إلى عدم المشاركة فى الانتخابات. هذا التصور الذى يدعو إلى الاعتراف بالتعددية الثقافية داخل المجتمع، قائم على افتراض أن العلاقة بين المواطن والدولةتهى علاقة تعاقدية، فعلى المواطن أن يقوم بعمله على الوجه المطلوب ويدفع الضرائب ويطيع القانون، وعلى الدولة أن تتيح له الأجر المناسب، وماعدا ذلك فالفرد حر يفعل ما يشاء. ولكن الاعتراف بالتعددية الثقافية لا يأتى بالضرورة لتأكيد حرية الأفراد بل أحياناً على العكس يجعلهم أسرى لثقافتهم الأصلية.
ويفسر بعض النقاد الراديكاليين الأهمية المتزايدة التى يكتسبها موضوع التعددية الثقافية، وخصوصا فى الدول القومية القديمة، بسبب آخر وهو أنه كان من مهام الدولة فيما مضى أن تعمل على توفير السكن الملائم والتعليم الجيد وفرص العمل لمواطنيها، ومؤخراً تخلت الدولة عن القيام بهذه الالتزامات تجاه سكان الضواحى والمناطق العشوائية والذين ينتمون فى أغلبهم لثقافات وافدة. فنجد السياسيين الرسميين يبرزون تحليهم بالتسامح ويؤكدون اعترافهم بالاختلاف الثقافى والهدف من ذلك هو تغطية على إهمال الدولة لأعداد كبيرة من الشباب وتبرير لتمييزها بين المواطنين.
التنوع الثقافى إذن شرط ضرورى لحيوية المجتمع، اما التعددية الثقافية فهى تدخل بالأحرى فى باب إدارة الأزمات.
* نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة