ماذا تعني الهوية للمثقف الحقيقي؟ وهل يراها أو تراها أحد القيود العديدة التي تحد من الانطلاق لعوالم وأبعاد لا ترى بالعين المجردة
ترى الأغلبية بأن المثقف موسوعة معرفية، وتعتبره محيطاً بالكثير من الأمور وفي الوقت نفسه هو متخصص مبحر في مجال معين، ويراه العامة بمثابة ناقد اجتماعي عقلاني وشمولي النظرة ومحب للقراءة والاطلاع ومعرفة كل ما هو جديد من المعارف وتصويره بالشخص المثالي البعيد عن العنصرية والطائفية ومتسامح مع نفسه والمجتمع ومحب للبشرية والسلام وناقد إيجابي لمجتمعه يسعى للبناء، ويقف ضد عوامل الهدم والتخريب في المجتمع وكل ما يقف عائقاً أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل ولكن إذا ما نظرنا للواقع سنجد أن كون المثقف مثقفاً لم يمنعه من أن يكون طائفياً وجشعاً وطبقياً، والقائمة تطول، خاصة إذا ربطنا الثقافة بكون الإنسان مطلعا إلى حد الاستيعاب أو صاحب تخصص علمي عال، أو منصب مرموق، ولذلك يجب أن نفرق بين المتعلم.. والمثقف.. والمثقف الحقيقي!
بحيث إن الأول، وهو المتعلم، لديه إطار معرفي لا يخرج عنه، ويدافع عن أحقيته وتفوقه وأهميته كعلم، ويرى تخصصه فيه كفيلا بأن يجعله شخصاً متعلماً ومثقفاً معاً. وأما الثاني، وهو المثقف، الذي يرى الناس بأنه مثقف لسعة معرفته بأمور عديدة، ولامتلاء ذاكرته بالمعلومات المتنوعة هو شخص، فهو شخص يحب المتلقي أن يستمع إليه، وهو أو هي في الغالب مدرك لما يقول، وكلامه أقرب إلى السرد وإعادة ما فكر فيه وكتبه الآخرون دون نقص أو زيادة، والاثنان لهما هوية ثابتة لا يحيدان عنها ويرتبط فكرهم في كثير من الأحيان بمعطيات الربح والخسارة والدوائر والشِلل التي ينتمون لها وتدعهم وتراعي مصالحهم، وهم في الغالب من يشغلون أهم المناصب الثقافية والإعلامية والمعرفية في المجتمع، وفي المقابل يقف المثقف الحقيقي، الذي يستغرب البعض أفكاره أو يجدها غير مألوفة للأغلبية ويكون منبوذاً فكرياً، حيث يتصف فكره بالشجاعة والفحص والموضوعية، والبعد عن التعصب، ولا يردد كل ما قرأه أو سمعه كالببغاء، ولا يعتمد دون تمحيص على الأفكار الجاهزة، ويرفض الأدلجة، والأخذ بالرأي لمجرد بأنه المتعارف عليه، أو يُجمع عليه الأكثرية، وذلك ليس بهدف التمرد والاختلاف، وإنما ليُخضِع العقل لنقد العقل، ونقد ما نقده العقل.
وهنا يكمن تحدي الهوية للمثقف الحقيقي، الذي لا يعتمد الإقرار والقوالب حتى المتعولم منها، والتي تحظى بقبول عالمي، وهو يعلم أن للعقل عمر مختلف عن عدد سنوات، وجود الإنسان الجسدي على الأرض ولهذا فهو دائماً يعيش خارج حدود رأسه، وما يبدو في غاية الغباء للكثيرين يراه هو بصورة مختلفة ومن زوايا متعددة، ويعلم تماماً أن النظريات العلمية والفكرية ليست بالضرورة دليلاً على العقلانية والمنطق، وتراه حين لا يستطيع التوفيق بين النظرية والتطبيق لا يخجل أن يعيش في عالم المجردات والخيال كواقع بديل له دون أن يفقد علاقته مع الواقع.
وهنا نتساءل: ماذا تعني الهوية للمثقف الحقيقي؟ وهل يراها أو تراها أحد القيود العديدة التي تحد من الانطلاق لعوالم وأبعاد لا ترى بالعين المجردة ولا تخضع لمعايير التجربة العلمية؟ ومن هذا المنطلق أرى أن الثقافة والفكر وظائف ومهن يجب أن يتفرغ لها المثقف الحقيقي، ولا يمكن أن يكون أي شيء آخر غير أن يكون مثقفاً حقيقياً، وعندما يبتعد عن العالم الذي يبدع فيه يصبح مجتمعه وعالمه هو الخاسر الأكبر وخاصة في الدول التي يقل فيها الاهتمام بالبحث العلمي والتطوير الفكري، والتي لا يوجد بها مراكز تفكير تعمل في مجال الفكر، ولا تستغرق كل وقتها في الإنتاج الثقافي.
ومثقف النسخة المعاصرة دوره غير قاصر على التحليل والالتفاف حول مركزية ثقافية بعينها أو الانغلاق على مبادئه الفكرية المتوارثة، حيث لا تزال هوية المثقف لغزاً يحير المثقف نفسه مما يجعله يبتعد عن النشاطات العامة في المجتمع، ويرجع ذلك للفجوة بين مرئياته التي قد لا تتوافق مع تصورات القاعدة الجماهيرية في بيئته، وزد على ذلك تأميم المثقف ضمن الميكنة الإعلامية لثقافة الأضواء الإعلامية، وعليه من المعيب أن يتصدر أشباه المثقفين المشهد الثقافي، ولا يكون للمفكرين دور يُذكر في رسم خريطة طريق إعادة إحياء نهضة الأمة العربية، ومتى سنسمع عن مشاريع مبتكرة للحفاظ على جوهر وكيان هوية الأمة الثقافية كونها حتماً وبالضرورة ضمن قائمة المورث الإنساني المهدد بالانقراض. وهوية المثقف الحقيقي جزء لا يتجزأ من تلك المنظومة والمهم الحفاظ عليها حتى لا نكون مضطرين أن نستورد مثقفين حقيقيين في السنوات القادمة.
* نقلا عن صحيفة الاتحاد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة