أن تكون مثقفاً عربياً اليوم، يعني أن تكون تابعاً معطل القدرة على أداء مهمتك التي تحمل صفتك بسببها، أي إنتاج الثقافة والمعرفة.
أن تكون مثقفاً عربياً اليوم، يعني أن تكون تابعاً معطل القدرة على أداء مهمتك التي تحمل صفتك بسببها، أي إنتاج الثقافة والمعرفة.
يرتبط المثقف العربي من أجل البقاء، بمجالين كبيرين هما التعليم والصحافة. أكثرية وازنة من المثقفين العرب تعمل في مؤسسة تعليمية أو في وسيلة إعلامية غالباً ما تكون ضمن الصحافة المكتوبة. ثمة مثقفون يتولون الإشراف على مؤسسات بحثية أو يشغلون مناصب فيها، لكنهم أقل عدداً من المجموعتين المذكورتين. وكان هناك اسمان أو ثلاثة أسماء يُضرب فيها المثل على أن أصحابها هم الوحيدون الذين يؤمنون دخلهم من إنتاجهم في مجالهم الإبداعي.
وعلى ما هو معروف، فإن مؤسسات التعليم العليا ووسائل الإعلام تخضع لسيطرة كاملة من الحكومات العربية حتى تلك التي تعتبر نفسها مستقلة بسبب تداخل تمويلها مع المصادر الحكومية. ونقصد بـ»الحكومية» منظومة السلطات العربية المتنوعة المحتكرة للمال العام، من موارده المختلفة والتي تجمعه بين يديها وتنفقه على ما تراه مفيداً لها، من دون مساءلة أو رقابة برلمانية أو إعلامية (ما دام الإعلام مطوّعاً سلفاً) في أكثر الأحوال.
يعطي هذا المدخل أداة بسيطة لفهم العلاقة غير المتكافئة بين السلطات العربية، كلها وعلى اختلافها، وبين المثقف العربي. فهذا الأخير لا يستطيع الارتقاء الى شرط وجوده – الاستقلال – ما دام ممسوكاً أولاً بمصدر رزقه ثم خاضعاً للرقابة متعددة المستويات، الاجتماعية والسياسية.
تحرم الظروف هذه – التي خبرناها كلنا – المثقف العربي من ماء الحرية، الشرط الشارط لأي إبداع ثقافي يستحق هذا الاسم. وتحوله الى تابع يردد ما ترغب السلطات له ان يقول.
نستعير هنا عنوان دراسة سبيفاك الشهيرة «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟»، بمعنى أن يكون موجوداً خارج تبعيته، سمته التعريفية في عالمنا العربي.
الإجابة السريعة عن هذا السؤال، أن الالتفاف على الواقع هو أسلوب البقاء المتاح. فلا يجد المثقف العربي أمامه من أدوات لمعالجة واقعه غير التحايل على المنع والقمع، القسرية والمخملية، ليعبر عن هواجسه ويطرح أفكاره وآماله المباشرة التي تقل كثيراً عن دوره المفترض كصانع رأي ومعبر عن مصالح فئات اجتماعية وسياسية، أي أنه «يتكلم» - بمعنى ما – لكنه يهرب تارة الى التراث ليبحث عن التحرر الفكري عند المعتزلة وينصرهم بمفعول رجعي على الأشاعرة ويغرق في تأملات إخوان الصفا وآراء أهل المدينة الفاضلة. ويمجد، طوراً، المتنبي الشاعر الذي رأى نفسه نداً للأمراء وهجا منهم من بخسه قيمته، فيتخيل المثقف العربي نفسه في موقع الشاعر الأمير الذي تحول صغائر الحياة دون تحقيق أحلامه. لكنه في هذا كله، يراوغ واقعه الممتنع عن الاستسلام أمام أدوات المثقف المتقادمة، والتي ثَلَمَت الأحداث والسنون حدها.
استعاد المثقف العربي المعتزلة ليحرر عقله، والمتنبي ليعلن حقه في الكرامة، والفارابي ليقول أنه مؤهل للإدلاء برأي في الشأن العام، وابن رشد ليفحم معه الغزالي، وابن عربي ليحلق في عالم مفتوح الآفاق والحدود. لكنه في ذلك كله، كان يتصرف تصرف الطفل المعنف الذي يبحث في أبطال خياليين يخترعهم عمن ينتقم له ممن أذله في الواقع.
كان الالتفات الى الماضي، الذي انقلب هاجساً ثقافياً عاماً بين السبعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، على ما لاحظ عدد من الكتّاب العرب، علامة شديدة الخطر على إحباط المثقف العربي من مشاريع النهضة وأيديولوجيات التغيير الثوري القومية والماركسية والإسلامية، ومن قابلية تحقيق تغيير حقيقي، الآن وهنا. كان بحثاً عن فردوس حضاري مفقود عُلّق على العثور عليه الكثير من الآمال التي سرعان ما انهارت بدورها بعد اكتشاف ضراوة الواقع والبون الشاسع بينه وحقائقه من جهة، وبين إمكانات تغييره سواء في اتجاه الحداثة على الطريقة الأوروبية أو إحياء العهد الذهبي الإسلامي، من جهة ثانية، مع ما في هاتين المحاولتين من عبثية.
وليس سراً أن الأيديولوجيات هذه خدمت، عندنا في المشرق على الأقل، في التورية على الانقسامات المجتمعية وأمراض الهوية العضال. فاستعارة أيديولوجيات وثقافة الحداثة الأوروبية في المشرق، وهي الاستعارة التي نفذها في غالب الأحيان مثقفون اعتقدوا بإمكان بناء اليوتوبيا الأيديولوجية من دون استكمال عناصر الحداثة، التي يشكل تحرر المجتمع وظهور «الشعب» والتوافق العريض على وجود الدولة، من أركانها الركينة. المجتمع والشعب والدولة ليست أموراً مسلماً بها، بل هي موضع نزاع على ما نشهد اليوم في العراق وسورية واليمن وليبيا ولبنان وغيرها. هي منجزات نزعم أن مثقفينا وسياسيينا لم يولوها حقها من العناية في خضم العواصف التي ضربت منطقتنا منذ مطلع القرن العشرين ولم تزل. وهذا حديث شرحه يطول.
من جانب آخر، قايض كثيرون من المثقفين العرب قصيدة المديح أمام السلطان، وما تعنيه من مكانة وحماية وعيش رغيد، بمهمتهم الأساس في استنباط مفاهيم جديدة وسبر أغوار الحقيقة.
يُرمى المثقف العربي الرافض الاندراج في النوع المذكور من المقايضات، بالتهميش والنسيان والغفلة. فإلى جانب المعاناة الفردية التي يعيشها المثقف المتمرد على قوانين السلطة وسوقها، غالباً ما يجد الكاتب العربي نفسه كمن يصرخ في البرية ولا يجيبه حتى الصدى. ثمة كتابات عربية منشورة منذ عقود، وقد تخدم كأسس صلبة في أي مشروع تجديدي، ثقافي وسياسي وديني، لكنها محاصرة بالتجاهل والتعتيم، وهذان من السيوف المواضي في أيدي السلطات على اختلافها في صراعها مع المجتمع ومن يحمل قضاياه من المثقفين، في سياق بحث السلطات عن «الأبد» أو «الاستقرار».
هنا، لا بد من التساؤل عن الهدف من «التجديد» سواء في الخطاب الديني أو في الخطاب السياسي العام. لا نستطيع إنكار السببية عن المطالبة بالتجديد والنهضة والتحديث على الصعد الفكرية والثقافية، حيث يلح الواقع الرديء على البحث عن مخرج ما من المآزق المتنوعة التي نعيش، لكننا بالقدر ذاته لا نستطيع إلا أن نتحفظ على غياب التحديد الصريح للغاية من هذا التجديد. فلا معنى لتجديد يرمي الى تحسين موقع الهيمنة التي تمارسها السلطة على المجتمع. لا معنى لنقد الخطاب الديني السلفي أو الجهادي أو سموه ما شئتم، إذا لم تكن الغاية منه تحرير المجتمع وإطلاق دينامياته الإبداعية وإشراك قطاعات واسعة من السكان المهمشين، من النساء والشباب والأقليات العرقية والدينية، في صوغ بنى جديدة للاجتماع والسياسة والدولة.
وعلى عكس ما يعتقد بعض العرب، فإن نقد الخطاب الديني لا يعني استبداله بآخر قمعي من صنف مشابه. آلة النقد متى اشتغلت تسير نحو الديموقراطية والتعدد وليس نحو استبدال استبداد بآخر.
وبالعودة الى موضوع مثقفنا العربي، لم يكن اضطهاد المثقفين واغتيالهم ظاهرة موقوفة على العرب. لا قديماً ولا حديثاً. هناك قائمة طويلة من الكتّاب والمفكرين والعلماء والفنانين نعرفهم جميعنا، سقطوا صرعى في مواجهات مختلفة مع السلطات. لكن، يُخيّل لي أن في ظاهرة «تأديب» المثقف العربي في الزمن الحالي خاصية لافتة وهي تنكّب القوى الأهلية، المتطلعة الى تعميم سلطاتها الاجتماعية والسياسية، مهمة الاقتصاص من المثقف الذي يخرج من صف الولاء ويكسر عصا الطاعة. هذه القوى غير المنتمية الى أجهزة الدولة، لكن المتواطئة معها والتي تشكل جزءاً من منظومتها القيمية والأخلاقية.
لا يعني ما تقدّم إصدار حكم بإعدام المثقف العربي المؤيد للسلطات. فهذه الأخيرة، بصفتها جهازاً أيديولوجياً، في حاجة الى مثقف وظيفي يبرر لها ويشرح لها وللجمهور أفعالها، بغض النظر عن درجة عقلانيتها أو مدى خدمتها لمصالح الفئات الأعرض من السكان. بيد أن هذه المصالحة بين المثقف والسلطة، تقضي على دور الأول كشاهد وكمبشر وتلحقه بصف المؤولين والشارحين لعظمة السلطة وحكمتها وضرورتها.
دعونا لا نعطي أنفسنا أهمية أكبر مما تستحق. بعض المثقفين العرب الذين تعرضوا للاضطهاد والملاحقة كان نتاجهم الأدبي او الفكري أو الفني شديد التواضع. وكان في الوسع ضمه بسهولة الى قائمة الأعمال القابعة في عتمة المجهول. لكن اغتيالهم أو سجنهم جاء في إطار المنافسة على الحيز العام بين سلطات أو مشاريع سلطات مختلفة. جاء في إطار «هندسة» المجال المؤثر في «العامة» وحصر قدرة التأثير هذه في أيدي الفئة المحتكرة لممارسة العنف والقسر والاغتيال.
حملت الثورات منذ 2011، بارقة أمل بتغيير كل الواقع العربي وواقع المثقفين استطراداً. لكن الإخفاق كان مآل هذه المحاولة الكبيرة والحزينة للحاق بالعصر. لكن إذا أردنا الإنصاف، لا بد من الاعتراف بعدد من الإيجابيات التي خلفتها الثورات، منها أنها نقلت النقاش العام الى مستويات مختلفة عما كان سائداً. ومنها أيضاً، أنها أخرجت كل مكنونات المجتمعات العربية الى العلن. وإذا كان الوقت ما زال مبكراً لإعلان البدء في علاج آفاتنا، إلا أننا على الأقل بتنا على معرفة أفضل بها.
* نص قدّم الى ندوة «معنى أن تكون مثقفاً عربياً اليوم»، في إطار «الملتقى الثقافي المصري - اللبناني» الذي عُقد في القاهرة في 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2016.
نقلا عن / الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة