تروج نتيجة الانتخابات أيضًا لوهم أن أنصار اليمين الجمهوري إلى زوال على المدى البعيد، مما يعنى أنه يتعين على الليبراليين الانتظار إلى أن تسقط البلاد في أحضانهم.
حقيقة بديهية تلك التي تقول إن الولايات المتحدة أصبحت دولة أكثر تنوعًا. وهي أيضًا شيء جميل يسر عيون الناظرين.
فالزوار من الدول الأخرى، تحديدًا تلك الدول التي تعاني من مشكلات في استيعاب مجموعات عرقية ودينية مختلفة، يتعجبون من قدرتنا على النجاح رغم ما لدينا من تباينات. قد لا تكون الصورة بهذا الكمال، لكننا أفضل حالاً اليوم من أي دولة أوروبية أو آسيوية، ولذا فقصة نجاحنا غير عادية بالمرة.
لكن كيف لهذا التنوع أن يصوغ سياستنا؟ فالإجابات الليبرالية المعتادة التي اعتدنا سماعها على مدى جيل كامل تقريبًا هي أننا يجب أن ندرك بل «نحتفي» باختلافاتنا، وهو ما يعد مبدأ عظيما من مبادئ علم الأخلاق، إلا أن تلك الاختلافات ذاتها أصبحت كارثية، بعد أن شكلت قاعدة للسياسة الديمقراطية السائدة في عصرنا المؤدلج الذي نعيشه الآن. ففي السنوات الأخيرة، انزلقت الليبرالية الأميركية إلى نوع من الذعر الأخلاقي من الهوية العنصرية، والجنسية التي دمرت رسالة الليبرالية ومنعتها من أن تصبح قوة توحيد قادرة على حكم الجميع.
من ضمن الدروس الكثيرة لحملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة ونتائجها البغيضة هي أنها أكدت أن عصر ليبرالية الهوية يجب أن ينتهي؛ فهيلاري كلينتون كانت في أفضل حالاتها عندما تحدثت عن المصالح الأميركية في العلاقات الدولية، وكيف أن تلك العلاقات مرتبطة بفهمنا للديمقراطية، لكن عندما تعلق الأمر بالحياة داخل الولايات المتحدة، مالت إلى متطلبات حملتها الانتخابية، وفقدت تلك الرؤية الواسعة وانزلقت إلى الحديث عن التنوع، ووجهت خطابها المباشر إلى الأميركيين السود واللاتينيين، والنساء. لكن هذا كان خطأ استراتيجيًا، فإن كنت ستذكر جماعات بعينها في الولايات المتحدة، فمن الأفضل أن تذكرهم جميعا، وإن لم تذكر الجميع، فسوف يشعر من لم يرد ذكرهم أنك قد أقصيتهم. فبحسب ما أظهرته البيانات، كان هذا ما حدث بالضبط مع الطبقة العاملة من البيض وأصحاب المعتقدات الدينية القوية، حيث منح ثلثا الناخبين البيض ممن لا يحملون درجات جامعية ونحو 80 في المائة من طائفة الإنجيليين المتحمسين أصواتهم لترامب.
فبالطبع كان للطاقة الأخلاقية التي تحيط الهوية الكثير من التأثيرات الحميدة، فقد تبلور العمل الإيجابي ليحسن من نمط الحياة الجماعية. واستطاعت حركة «بلاك لايف ماترز» (حياة السود تهمنا)، أن تدق ناقوس الخطر لكل أميركي يعيش من دون ضمير.
لكن الاعتياد على التنوع في مدارسنا وفي الصحافة كان سببًا في إنتاج جيل من الليبراليين والتقدميين المغرمين بذاتهم وغير المدركين للأوضاع خارج المجموعات التي تقوقعوا بداخلها، واللامبالين بمهمة التواصل مع الأميركيين في جميع مناحي الحياة. ففي الطفولة المبكرة نشجع أطفالنا على الحديث عن هويتهم الشخصية حتى قبل أن تتكون هويتهم. ومع وصول الكثيرين إلى الجامعات، يفترض أن خطاب التنوع يستنزف الخطاب السياسي، وبالتالي لن يكون لديهم الكثير ليقولوه عن تلك الأسئلة المتواترة عن الطبقة الاجتماعية، والحرب والاقتصاد والصالح العام. وفي الغالب، يرجع السبب في ذلك إلى تاريخ المناهج الدراسية في المرحلة الثانوية التي عفّى عليها الزمن، والتي وضعت الخطوط العريضة لسياسة الهوية السائدة اليوم، مما كان سببًا في رسم صورة مشوهة للقوى الفاعلة والأفراد الذين ساهموا في رسم ملامح بلادنا.
فعندما يصل الصغار إلى الكليات تجد أن الجماعات الطلابية وهيئات التدريس والإداريين بالكليات التي ينصب كل عملها على التعامل مع مسألة «التنوع» تشجع الطلاب على التركيز على أنفسهم. فقناة فوكس نيوز وغيرها من وسائل الإعلام المحافظة دأبت على السخرية من الجنون الذي يصيب الطلاب داخل الحرم الجامعي بهذا الشأن، وغالبًا ما يكون معهم الحق في ذلك، وهو ما يؤدي خدمة كبيرة للديماغوجيين الشعبويين الراغبين في التقليل من شأن التعليم في أعين كل ممن لم تطأ قدماه أرض الجامعة.
وقد أجريت تجربة بسيطة مؤخرًا أثناء عطلتي في فرنسا؛ فعلى مدار عام كامل قرأت فقط المطبوعات الأوروبية، ولم أقرب الأميركية. كان غرضي أن أحاول رؤية العالم كما يراه الأوروبيون، وكان من المفيد العودة للولايات المتحدة بعد ذلك لأعرف كيف أن نظارة الهوية قد غيرت طريقة سرد الأميركي للأخبار في السنوات الأخيرة. فمثلاً كم مرة قرأنا في الولايات المتحدة قصصًا عن «أول شخص كذا يفعل كذا»، وكررنا القصة نفسها مرارًا وتكرارًا. فالغرام بدراما الهوية تركت أثرها حتى في نقل الأخبار الأجنبية التي باتت شحيحة.
لكن فيما يخص سياسة الانتخابات، فقد كانت ليبرالية الهوية صاحبة الفشل الأبرز كما رأينا. فالسياسة الوطنية في فترات الاستقرار غير معنية بـ«الاختلاف»، لكن بالقواسم المشتركة، ومن يستطيع أن يأسر خيال الأميركيين بالتركيز على مصيرنا الواحد سيهيمن على سياستنا في النهاية. نجح رونالد ريغان في أن يحقق ذلك ببراعة كبيرة، بصرف النظر عن رأينا في رؤيته، وهو ما فعله أيضا بيل كلينتون الذي اقتبس صفحة من كتاب ريغان. فقد أخذ الحزب الديمقراطي بعيدًا عن الجناح المتشبث بالهوية، وركز طاقته على البرامج المحلية التي ستعود بالنفع على الجميع (مثل برامج التأمين الصحي)، وعرف الدور الأميركي في عالم ما بعد عام 1989. وباستمراره في منصبه لفترتين، استطاع تحقيق الكثير للعديد من الجماعات في التحالف الديمقراطي. فسياسة الهوية، على النقيض، تعبيرية أكثر منها إقناعية، ولهذا لا تفوز في الانتخابات أبدًا، بل تخسر دائمًا.
فالاكتشاف الأنثروبولجي، أو الإنساني، الذي حققه الإعلام مؤخرًا باهتمامه بصالح الرجل الأبيض الغاضب كشف الكثير عن حالتنا الليبرالية، كما أظهر ذلك الرجل المفترى عليه والمهمش في الماضي. فالتفسير الليبرالي التقليدي للانتخابات الرئاسية الأخيرة يقول إن السبب الرئيسي لفوز ترامب هو نجاحه في تحويل المشكلات الاقتصادية إلى غضب عنصري، أو بالأحرى فرضية «انتقام البيض».
تروج نتيجة الانتخابات أيضًا لوهم أن أنصار اليمين الجمهوري إلى زوال على المدى البعيد، مما يعنى أنه يتعين على الليبراليين الانتظار إلى أن تسقط البلاد في أحضانهم. كذلك تعنى نسب الأصوات اللاتينية المرتفعة التي ذهبت إلى ترامب أنه كلما زاد وجود الجماعات اللاتينية في هذه البلاد، ازداد تنوعهم السياسي.
في النهاية، فإن فرضية انتقام البيض تعد ملائمة لأنها تعفي الليبراليين من الاعتراف بكيف أن غرامهم بالتنوع قد شجع البيض والريفيين والمتدينين على التفكير في أنفسهم كجماعة محرومة ذات هوية مهددة أو مهملة. فهؤلاء الناس لا يعملون ضد مقتضيات واقع التنوع الأميركي الداعي إلى التعايش في مجتمع متجانس، لكنهم يتصدون لمنطق الهوية الصارخ الذي قصدوه بقولهم «التصحيح السياسي».
* نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة