لم تكن مسيرة الاتحاد سهلة، ولم يكن الطريق مفروشاً بالورد أمام صانعي الاتحاد.
احتفلت دولة الإمارات العربية المتحدة نهاية الأسبوع الماضي باليوم الوطني الخامس والأربعين. والحقيقة أنه يصعب على أي شخص أن يعرف أجواء الاحتفال باليوم الوطني في الإمارات ما لم يعشها بنفسه، وما لم يعاين المشاعر المتدفقة التي تبارى مواطنو الدولة والمقيمون فيها في التعبير عنها، وما لم يلمس مظاهر الفرح التي شملت كل شبر من أرض الدولة.
لم تكن مسيرة الاتحاد سهلة، ولم يكن الطريق مفروشاً بالورد أمام صانعي الاتحاد، بل إن هناك من راهن في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) 1971 على أن عمر الدولة الوليدة لن يكون طويلاً. وكانت هناك تحديات داخلية، منها طبيعة الحكم الذي تتوزع فيه السلطة بين الحكام المحليين ودولة الاتحاد، والتصورات المختلفة لحدود سلطة الاتحاد وسلطة الإمارة، وبقايا خلافات حدودية لم تكن حُسمت بعد، والنقص في الكوادر البشرية القادرة على إدارة الدولة، وضعف مستوى التعليم والتنمية ونقص الخدمات والمرافق. ولم تكن التحديات الخارجية أقل، فالمنطقة لا تعرف الهدوء أو الاستقرار، وهناك قوى إقليمية كبيرة متربصة لها أطماعها، والصراع السياسي والاستقطاب الدولي على أشده بين الشرق والغرب. غير أن الإمارات مضت في حفظ اتحادها وصونه لتظل تجربتها التجربة الوحدوية الرائدة التي حلم كثير من العرب بتحقيقها.
كل هذه التحديات وغيرها كانت قائمة، وكانت كفيلة بتقويض التجربة، لكن الله قيَّض بفضله لهذه الدولة قائداً عزّ نظيره، هو المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، عمل بمزيج من الحكمة السياسية والرؤية الإنسانية، ومن ورائهما إخلاص لا حدود له وعزيمة تفل الصخر على بناء الاتحاد وتذليل كل الصعاب والمشكلات. وبعد سنوات قليلة فقط أصبح واضحاً أن المسيرة تمضي بقوة وثبات نحو الأمام، وأن ما يحتاج إنجازه إلى أعوام كان يستغرق شهوراً، وأن الثروة تُسخر لخدمة الإنسان قبل كل شيء، وينال الجميع خيرها، وأن النهضة تشمل التعليم والصحة والاقتصاد والزراعة والصناعة والبنية التحتية في ظل سيادة للقانون وتوحيد للجهود، كما تشمل العلاقات الخارجية المتزنة، والعمل الفاعل عربياً ودولياً.
منذ انطلقت مسيرة دولة الإمارات فإنها لم تعرف التوقف أو التراجع، بل كانت ماضية إلى الأمام دائمة، وبخطوات سريعة. ومع مطلع الألفية الثالثة كانت دولة الإمارات تحتل مكانها بين دول العالم المتقدم، واليوم لم تعد الإمارات ترضى بغير المراكز الأولى في كل مجالات التنمية، وهي تتفوق على كثير من الدول الأوروبية الكبرى في مؤشرات اقتصادية واجتماعية وتنموية. وبقدر ما يتجسد تفوق الإمارات في جانبه المادي والاقتصادي فإنه يتجلى في جانبه الأخلاقي والمعنوي أيضاً، فكما تحتل الدولة مرتبة متقدمة جداً في معدل دخل الفرد من الناتج القومي الإجمالي فإنها في الوقت ذاته تحتل موقعاً متقدماً جداً على مؤشر السعادة العالمي.
في اليوم الوطني الخامس والأربعين، تقف دولة الإمارات العربية المتحدة على أرضية صلبة، موقنة بأن لديها ما تقدمه للعالم حضارياً وإنسانياً، وهو ما أشار إليه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبو ظبي، بقوله: «لم يكن اتحاد الإمارات تجربة رائدة فقط، بل رسالة عالمية عظيمة اكتسبت احترام وتقدير الجميع، حقق فيها الوطن مكانة عالمية مرموقة». وتتنوع القيم الحضارية التي يمكن للدولة أن تهديها إلى العالم، وفي مقدمها التسامح الذي يتيح لأكثر من 200 جنسية أن تعيش بانسجام ووئام على أرضها، ويجعل منها صورة مصغرة للعالم بأديانه وثقافاته وحضاراته وقيمه التي تتجانس ولا تتنافر، وتتعايش بعضها مع بعض في سلاسة ويسر، ويتسابق الجميع للحصول على الفرص على أساس من الكفاءة والجدارة.
إن النجاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي لأي دولة والحفاظ عليه ليس بالأمر اليسير، لكن النجاح في منطقة تموج بالاضطرابات والصراعات والصدامات التي لا تنتهي أكثر مشقة وصعوبة، وهذا ما فعلته دولة الإمارات. ففي منطقة يُنظر فيها إلى الماضي دائماً على أنه أفضل من المستقبل، وينظر فيه الناس إلى الغد بتشاؤم وخوف، فإن دولة الإمارات تنظر إلى ماضيها بفخر، لكن عينها على المستقبل الذي تثق بأنه سيكون أفضل، فالغد بالضرورة سيحمل المزيد من الإنجازات. ويمكن أن ننظر مثلاً إلى ما حققته المرأة من تطور هائل، بحيث أصبحت موجودة في كل مجالات العمل والإنجاز، لندرك أنه حتى التحولات الاجتماعية كانت هائلة، من دون أن تتأثر الشخصية الحضارية للدولة أو تهتز منظوماتها القيمية والثقافية الراسخة.
يمكن النظر إلى فكرة «المبادرة» التي أصبحت من المفردات الشائعة في دولة الإمارات اصطلاحاً وممارسة، ويمكن أيضاً النظر إلى عناوين المبادرات التي ظهرت خلال العام الحالي وحده، ومنها مبادرات للقراءة والابتكار والتسامح، وجميعها عناوين تشير إلى مجتمع منشغل بتشييد بنية تحتية راسخة للتطور العقلي والمعنوي، بعد أن أنجز البنية التحتية المادية بأفضل وأرقى ما يكون. وتفسر هذه الانشغالات أيضاً ما أحرزته الدولة من مكانة عالمية واحترام إقليمي ودولي كبير. وقد تُرجمت هذه المكانة خلال الاحتفالات باليوم الوطني، إذ حرص على المشاركة فيه عدد كبير من الزعماء ورؤساء الدول ورؤساء الوزارات من داخل العالم العربي وخارجه، أعربوا جميعاً عن إعجابهم بما أنجزته الدولة وقيادتها الرشيدة، واحترامهم البالغ للنجاحات التي حققتها.
وكان وجود خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لفتة كريمة حافلة بالمعاني في احتفالات دولة الإمارات باليوم الوطني، فالمملكة العربية السعودية هي الشقيق الأقرب لدولة الإمارات، والبلدان يؤديان دوراً محورياً في حفظ استقرار المنطقة وأمنها، ومنع القوى المتربصة بالمنطقة والطامعة في اختراقها من تنفيذ الخطط والمؤامرات القائمة على بث الفوضى وتغذية الصراع في المنطقة. وكانت عاصفة الحزم تتويجاً لتاريخ طويل من اتفاق الرؤى ووجهات النظر بين القيادة في البلدين، وكانت دماء الشهداء من البلدين التي امتزجت دفاعاً عن الشرعية في اليمن، وحماية لمجلس التعاون لدول الخليج العربي من محاولات التطويق، هي أبلغ تعبير عن وحدة الرؤية والمصير.
إن هذه الزيارة الكريمة من جانب خادم الحرمين، والاستقبال الحافل الذي حظي به من شيوخ الإمارات وشعبها، والاحتفاء بالزيارة في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى ساحة للتعبير عن هذه المشاعر الإماراتية الفياضة تجاه المملكة العربية السعودية وقيادتها الحكيمة، تدحض كلها ما تحاول الماكينات الدعائية الخبيثة ترويجه عن علاقات البلدين، وتحبط كل محاولات الوقيعة التي جعلوها هدفاً لهم. وربما كانت كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان هي الأبلغ في التعبير عما تكنه الإمارات قيادة وشعباً للمملكة بقوله إن «المملكة العربية السعودية هي عمود الخيمة الخليجية والعربية، وأمنها واستقرارها من أمن واستقرار الإمارات». ولعل هذا خير ما ترد به الدول الواثقة بخطواتها على كل المغرضين والمتخرصين.
كل عام ودولة الإمارات العربية المتحدة بكل الخير، وكل عام ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربي والدول العربية بخير، ماضية إلى الأمام، نحو مزيد من النجاح والتقدم.
*نقلا عن الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة