ليس شيء مما ذكرناه يعد جديدا على عالم السياسة، بطبيعة الحال. فدائمًا ما تحلق الشعارات الرنانة فوق رؤوس الساسة.
في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، كانت وسائل الإعلام تتملكها حالة من الذعر حيال تفشي الأخبار الوهمية الزائفة على مختلف مواقع الإعلام الاجتماعي. وكان المراسلون يفحصون الموضوعات من مختلف الزوايا، ويتعقبون مروجي الأخبار الوهمية المضللين من كاليفورنيا وحتى القوقاز، ويحللون كيفية نشر الأكاذيب، ويدقون نواقيس الخطر حول محو الأمية الإعلامية، وغير ذلك الكثير.
ويمكنكم تفهم السبب وراء القلق الشديد الذي يساور الصحافيين الآن. وذلك من ناحية، أن أغلب الصحافيين يريدون وصول المعلومات الحقيقية الصحيحة إلى الناس. ومن ناحية أخرى، هناك مسألة المصالح الذاتية: الأخبار الكاذبة تقوض من سلطة الصحافيين بوصفهم حكامًا على الحقيقة. كذلك، ولسوف أطلعكم على سر صغير هنا، أن معظم الصحافيين الحاليين فضلوا ترشيح هيلاري كلينتون على دونالد ترامب، وبالتالي فإن فكرة أن الأخبار الوهمية قد حولت من مسار الانتخابات الأخيرة، هي بالفعل من القصص المحيرة.
ولكن كل هذا التركيز على أخبار الفيسبوك الوهمية يحجب قصة كبيرة بحق حول الكيفية التي تعيد وسائل الإعلام الاجتماعية – الرأي العام غير المتناهي وتبادل المعلومات – من خلالها تشكيل السياسات الحالية. حتى وإن لم تكن من المهتمين كثيرًا بما يعنيه الأمر، فقد تكون قد سمعت أحدهم يقول: «الإعلام هو الخبر»، وهو القول المأثور الشهير للمنظر الإعلامي المعروف مارشال ماكلوهين.
ولكن ما الذي يعنيه ذلك، وما الذي يعنيه على وجه الخصوص حيال انتخابات عام 2016 الرئاسية؟ يمكن العثور على الإجابة المحتملة في أعمال «والتر جيه. أونغ»، القس اليسوعي والطالب الأسبق للسيد ماكلوهين في جامعة سانت لويس. ففي عمله الأكثر شهرة، بعنوان: «الشفهية ومحو الأمية»، يقول أونغ: كيف أن استحداث القراءة والكتابة قد أفسح الطريق لتغيرات جوهرية في الضمير والوعي البشري. وقال إن الكلمة المكتوبة ليست مجرد امتداد مخطوط للكلمة المنطوقة، و«لكنها كانت الشيء الذي فتح آفاقًا جديدة للتفكير، والشيء الذي خلق عالمًا جديدًا».
ومن أسهل الطرق لفهم الفارق بين العالم المكتوب والعالم المنطوق هي أنه في العالم المنطوق ليس هناك من طريقة للبحث عن أي شيء. وقبل اختراع الكتابة، كانت المعرفة محصورة في الزمن الحاضر بين شخصين اثنين وربما أكثر، وعندما تُنسى المعلومة في ذلك الوقت، فإنها يطويها النسيان إلى الأبد. وأوجد ذلك الوضع الطبيعي الحاجة الماسة إلى وجود الأفكار التي يسهل تذكرها وحفظها وتكرارها (لذا، وبطريقة ما، يمكن أن تنتشر على نطاق أوسع). ولم تكن «فورية» العالم المنطوق تحبذ وجود الأفكار المعقدة والمجردة التي تستحق التفكير فيها مليًا. بدلا من ذلك، صعدت من شأن الأفراد الذين ينشرون القصص التي لا تنسى، والحكمة، والأنباء السارة.
ونبدأ من هنا رؤية كيف أن عصر الإعلام الاجتماعي يجسد زمن ما قبل القراءة والكتابة، أي العالم المنطوق. تتبنى مواقع «فيسبوك»، و«تويتر»، و«سنابشات»، وغيرها من المنصات الاجتماعية المعروفة الاقتصاد اللغوي الناشئ الذي يولي أهمية قصوى للأفكار التي تتسم بالبلاغة، والوضوح، والجديرة بالتذكر والتكرار (أي باختصار، واسعة الانتشار). أما الأفكار المعقدة، والمختلفة بعض الشيء، والتي تتطلب سياقًا معينًا لطرحها، فلا تؤدي دورًا مؤثرًا في أغلب منصات الإعلام الاجتماعي، ولكن الوسم التصنيفي «هاشتاغ» يمكن أن يجلب قدرًا غير معتاد من التأثير. ولقد أدرك إيفان شبيغل، الرئيس التنفيذي لشركة سناب، الديناميات الشفهية الجديدة لوسائل الإعلام الاجتماعية عندما صرح لصحيفة «وول ستريت جورنال» بقوله: «يتساءل بعض الناس لماذا تلتقط ابنتهم عشرة آلاف صورة في اليوم. وما لا يدركونه هو أنه لا تحتفظ بشيء من هذه الصور، إنها فقط تتحدث».
وضع السيد أونغ في كتابه «الشفهية ومحو الأمية» الكثير من الاختلافات الرئيسية بين العالم المنطوق والعالم المكتوب، ومن خلال هذه الفوارق، يمكنك معرفة لماذا هناك شخصية كمثل دونالد ترامب يستطيع الازدهار والصعود عبر السياق اللفظي «المنطوق» الجديد. وإليكم بعض من هذه الأمثلة:
** في العالم المنطوق، فإن الأفكار والتعبيرات، وفقًا للسيد أونغ، «إجمالية وليست تحليلية»، وهو ما يعني أن اللغة كانت «معادلية». والسيد أونغ، الذي درس الملاحم الشفهية القديمة مثل «الأوديسا» إلى جانب نصوص ما قبل القراءة والكتابة التي بلغت العصر الحديث، كتب يقول إن الأساتذة القدامى للنصوص الشفهية فضلوا الحديث «ليس عن الجندي، ولكن عن الجندي الشجاع، وليس عن الأميرة، ولكن عن الأميرة الجميلة، وليس عن شجرة البلوط، ولكن عن شجرة البلوط القوية». ويبدو ذلك مألوفًا لدى الجميع، أليس كذلك؟ وبالتالي، وفي حالة دونالد ترامب، لم يكن حديثه أبدًا عن «تيد كروز»، أو «ماركو روبيو»، أو «هيلاري كلينتون»، بل كان عن «تيد الكاذب»، و«ماركو القزم»، و«هيلاري المخادعة». وهذه الصفات المتكررة إلى ما لا نهاية غلفت المعلومات الكبيرة في قوالب صغيرة جدًا، وعصية على النسيان لدى الناس.
** والثقافة الشفهية تستلزم قدرا معتبرا من التكرارية والإطناب؛ وذلك لأنه عندما يعجز الناس عن مراجعة النص، لا بد وأن يقيهم المتحدثون شر التشتت والإلهاء والارتباك. والتكرار هنا من الأساليب المفيدة للغاية، ويعد دونالد ترامب أحد أبرز أساتذة هذا الأسلوب. فمن خلال مراجعة الملاحظات التي أدلى بها خلال المناظرة الرئاسية في شهر مارس (آذار) الماضي نجده يقول: «إنني قائد. لقد كنت دائمًا قائدًا. ولم تكن لدي مشكلة أبدًا في قيادة الناس. وإذا وجهت أمرًا فإنهم ينفذونه. وهذا كل ما تعنيه القيادة». إن النصوص الشفوية وتقاليدها المعروفة تدور حول التركيز المستمر على نقطة واحدة.
** نظرًا لأن كل أشكال التواصل في عصور ما قبل القراءة والكتابة كانت تجري وجهًا لوجه، كان هناك تركيز كبير على المبارزات اللفظية. وكما يقول السيد أونغ، يشبه التواصل اللفظي، في غالب الأمر «المبارزة المهذبة، ومسابقات الدهاء» – على النقيض من الأدب، والذي يتعهد التجريد بقطع الصلة ما بين المؤلف والنص. ولقد عرج الكاتب غيت هير في مجلة «نيو ريبابليك» على هذه النقطة أيضا. وبطبيعة الحال، فإن العدوانية والجدلية هي مفاتيح التواصل الرئيسية لدى دونالد ترامب من دون شك.
ليس شيء مما ذكرناه يعد جديدا على عالم السياسة، بطبيعة الحال. فدائمًا ما تحلق الشعارات الرنانة فوق رؤوس الساسة. والتكرارية والإطناب من أساليب الخطابات التقليدية لديهم. وبوجه عام، دائمًا ما كان عالم السياسة يقدر المقدرة على إلقاء الخطاب الجيد أيما تقدير.
علاوة على ذلك، لا يزال أمام العالم طريق جدا طويل حتى يتمكن من القضاء على محو الأمية الكتابية بالطرق الكلاسيكية. فما زلنا لا نستغني أبدًا عن مطالعة المعاني في القواميس أو موسوعة ويكيبيديا. لا تزال العزلة، والتخبط في متاهات المكتبات وبين أكوام الكتب، والتفتيش الدقيق حول حجية الوثائق وأصولها كلمة بكلمة من أغنى التجارب البشرية. ولكن مع انتشار المعلومات في المجال الاجتماعي العام – وتلفعها بعباءة الـ«فيسبوك» و«تويتر» العاجلة القصيرة – فإنها تتلمس لنفسها المزيد من صفات العالم الشفهي المنطوق. مما يفسح المجال، ولا بد، وبشكل جيد أمام السياسيين الذين يفكرون ويتواصلون تمامًا كمثل ما يصنع دونالد ترامب.
* نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة