لقد سقطت جدران كثيرة على مر التاريخ أمام إصرار الشعوب على التواصل.
بعد التقدم الذي حققته البشرية على مدى قرون في العلوم والفنون والتشريعات والقوانين الإنسانية، لا تزال بعض الدول تتبع الأسلوب ذاته الذي كان يستخدمه البدائيون على مر التاريخ، ليشكل علامة رجعية لا علاقة لها بالتقدم الفكري والإنساني، متناسين أن العالم تحول بفضل التكنولوجيا المتطورة إلى قرية صغيرة، ويمكن لجميع الأفراد التواصل فيما بينهم من أي مكان يقيمون فيه، وكأن أصحاب سياسة الجدران العنصرية والعازلة يرفضون نتائج ابتكاراتهم واختراعاتهم، ولا يزالون يعتقدون أن التواصل الحسي المادي الجسدي هو الأخطر، بينما التواصل الفكري هو الأهم. وهو أمر يثير التعجب والدهشة.
لقد سقطت جدران كثيرة على مر التاريخ أمام إصرار الشعوب على التواصل، ولا تزال ذكرى جدار برلين الذي حاول الفصل بين أبناء الشعب الألماني الواحد، حاضرة في الأذهان، ولم يصمد الجدار أكثر من 28 عاماً، فقد بدأ البناء به في 13 أغسطس/ آب من العام 1961، وجرى تحصينه وتقويته على مدى سنوات، ولكن تم فتحه في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1989، وهُدم بشكل كامل فيما بعد.
ولم تتعلم الولايات المتحدة بصفتها أقوى دولة في العالم من درس جدار برلين، وقام الكونغرس الأمريكي في السادس من مايو/ أيار من العام 2006 بالتصويت لبناء جدار بطول 1384 كيلومتراً على بعض أجزاء الحدود الأمريكية مع المكسيك، بدعوى الحد من الهجرة غير الشرعية وتدفق المخدرات، وكرر الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مطالباته ببناء أطول جدار بين البلدين للأسباب ذاتها، رغم علمه أن الجدار لن يوقف الهجرة غير الشرعية بين أمريكا والمكسيك، فطول الحدود بين البلدين يبلغ حوالي 3169 كيلومتراً، وهي الأطول في العالم بين دولتين، ووفق دراسات أجريت سيكلف مشروع الجدار حوالي 21 مليار دولار، أي أنه سيضع الاقتصاد الأمريكي في مأزق، وحالياً تنفق أمريكا مليارات الدولارات سنوياً لحماية حدودها، ويقوم حوالي 17 ألف جندي بحراسة الحدود، ناهيك عن المتطوعين المدنيين، ويفشل جميع هؤلاء يومياً في الحد من الهجرة، فالحدود تكتنفها جبال وعرة وأشعة شمس حارقة، إضافة إلى نهري كولورادو وغراندي، لكن دونالد ترامب يصر على فكرته المستحيلة، بدلاً من ضخ الدولارات التي سيتكلفها بناء الجدار في سد جوع الفقراء الراغبين في الهجرة، ويخاطرون بأنفسهم.
أما قضية جدار الفصل العنصري في فلسطين فهو أكثر من فضيحة للعالم، قبل أن يكون لسلطات الاحتلال «الإسرائيلي»، فهذا الجدار دليل فشل كبير لمساعي العالم في حل القضية الفلسطينية، وإعادة اللاجئين إلى أراضيهم، بل والسكوت عنه يشكل مؤامرة دولية وانحيازاً كاملاً إلى جانب السياسات الصهيونية؛ إذ لا تكفي بيانات الشجب والاستنكار للفعل ذاته، بل لا بد من العمل على إزالته نهائياً، ليس لتمكين الفلسطينيين من التواصل مع «الإسرائيليين»، بل للحفاظ على وحدة الأراضي الفلسطينية التي رسمتها المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ورعتها الدول العظمى.
وقد بدأت حكومة «أرئيل شارون» بتاريخ 23 يونيو/ حزيران من العام 2002 في بناء جدار الفصل العنصري الممتد على طول الخط الأخضر مع الضفة الغربية، بدعوى منع تسلل منفذي العمليات الفدائية إلى «إسرائيل». ويبلغ طول جدار الضم والتوسع العنصري حوالي 770 كيلومتراً، حيث تم بناء ما يقارب 406 كيلومترات منه أي 52.7% من المسار الكامل للجدار. ويعزل الجدار ما مساحته 733 كيلومتراً من الأراضي الفلسطينية، ويقدر طول الجدار الشرقي الذي يمتد من الشمال نحو الجنوب بحوالي 200 كم؛ حيث تعزل وتستولي السلطات «الإسرائيلية» من خلاله على منطقة الأغوار التي تعتبر سلة فلسطين الغذائية.
ومن الجدران التي أفرزتها الأحداث خلال السنوات الخمس الماضية في العالم العربي، أي منذ بدأ (الربيع العربي) جدار بين سوريا وتركيا، لوقف تسلل السوريين إلى تركيا بطريقة غير شرعية، وهنا قد يضحك المرء استهزاءً من هذه النتيجة، فقد أدخلت تركيا بطريقة غير شرعية عشرات الآلاف من المقاتلين المتطرفين إلى سوريا من أراضيها، وأججت الحرب التي تسببت بتدمير البيوت، وتقوم منذ فترة ببناء سور لمنع أصحاب البيوت المهدمة من البحث عن ملجأ آمن! .
وأخيراً وليس آخراً، فكرت السلطات اللبنانية ببناء جدار عازل حول مخيم عين الحلوة القريب من مدينة صيدا في جنوب لبنان، لضبط الدخول والخروج، والسيطرة على محاولات التسلل من وإلى المخيم، وشرعت في بنائه، وأمام الاحتجاجات أوقفت العمل فيه، علماً أن هذا المخيم يسكنه حوالي ثمانين ألف فلسطيني، ومن بينهم نازحون قدموا من سوريا.
وقد أدهش ذاك الجدار اللبنانيين قبل الفلسطينيين، وشبهوه بجدار الفصل العنصري الذي تبنيه قوات الاحتلال في فلسطين المحتلة.
سياسة الجدران هي سياسة العجز والفشل، إن كانت في ألمانيا أو أمريكا أو تركيا أو سوريا أو فلسطين أو لبنان، وأذكر تصريحاً لبابا الفاتيكان رد خلاله على الرئيس دونالد ترامب بشأن الجدار بين أمريكا والمكسيك، أن الجدار ليس عملاً مسيحياً، وقال إنه بدلاً من بناء الجسور بين البشر تُبنى الجدران العازلة.
*نقلا عن الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة