منذ سقوط الخلافة العباسية عام 1258م، لم تقم للعرب قائمة، ولم تزدهم الأيام إلا تفتتاً ودويلات متناحرة في ما بينها.
كان الوقت مغرب إحدى ليالي الشتاء في بداية ستينيات القرن الماضي، جلس ذلك الكبير يحيط به أصحابه البسطاء، وأتي مُضيفهم بإناء صغير فيه من لبن النوق، وقدّمه لكبير القوم، لكنه لم يشرب منه، بل مرره لرفاقه مباشرة، فارتبك الـمُضيف وقال: «هبابه يبدّك»، أي هو بالكاد سيكفيك فقط.
فرد عليه بابتسامة: «اللي ما يبدّ ربعي ما أباه يبدّني»، أي أن ما لا يكفي أصحابي لا أريده أن يكفيني، جملة خلدها الزمن، وموقف تناقله الحضور، يوضح ما معنى الإيثار، وأن نتشارك في «الحلوة والمرة»، وأن تهتم بغيرك قبل أن تهتم بنفسك، موقفٌ من آلاف المواقف التي بيّنت معدن ذلك الكبير، ومن غيره؟، زايد الخير، طيّب الله ثراه!
منذ سقوط الخلافة العباسية عام 1258م، لم تقم للعرب قائمة، ولم تزدهم الأيام إلا تفتتاً ودويلات متناحرة في ما بينها، بل أصبحت أراضيهم حقاً مشاعاً للطامعين من أواسط آسيا وغربها، وللبرابرة من شرقها، ولجحافل غزاة أوروبا وهمجها.
ومرت السنون ومحاولاتهم للتوحّد تبوء بالفشل الذريع فور أن تبدأ، والتي كان آخرها عام 1961، بفشل الجمهورية المتحدة بين مصر جمال عبد الناصر وسوريا شكري القوتلي، بعد ثلاث سنين من الاتحاد الهش، لذا، ترسّخت في النفسية العربية، أن الوحدة في ما بينهم لا تعدو أن تكون أدبيات غير حقيقية، وأحلاماً وردية لا موقع لها على أرض الواقع!
كل العرب كانوا، وما زالوا حتى يومنا هذا، يائسين من إيجاد وحدة حقيقية بين بلدانهم، فالصراعات أكثر من التفاهمات، والاختلافات أكبر من التوافقات، والأجندات متضاربة في ما بينها، وكلهم لسان حاله «اللهم نفسي نفسي»، وبلغ التقوقع على الذات بينهم، لدرجة أن أحسسنا بأنّهم يتمنون أن يكون لكل قبيلة دولة، بل ولكل حي وقرية.
كما كانوا متشرذمين في أيام الجاهلية البائدة، لذا، لم يتوقع أحد لمشروع زايد أن يخرج بنتيجة مختلفة، ولم يؤخَذ على مَحْمَل الجدّ، كيف ذاك، وهي أراضٍ قاحلة لا تملك أملاً، وصحارى لا تنبت فيها حتى أحلام اليقظة، وقبائل متناحرة ما يفرّقها أكثر مما يجمعها، وبين بعضها إرث من الدم والثارات لا يمكن أن تطويه الأيام.
وحده زايد من لم يأبَه لكل ذلك، كان يعلم صعوبة حُلمه، ويدرك قلة الأدوات التي يملك، لكنه آمن أنّ كل شيء عظيم، يستحق الجهد الكبير والصبر الطويل، وسعة البال التي لا تكسرها محبطات الواقع، فجال تلك الصحارى جيئةً وذهاباً، لم يترك واحة مأهولةً أو مدينة ساحلية إلا وأتاها.
ولا صحراء إلا وذَرَعها ومرّ بكل من تُخبئه كثبانها الجرداء وأوديتها الظامئة من قبائل وبدو رُحّل، لم يكن يطمح لتوحيد الأراضي ومساحات الجغرافيا، بل كان همّه ردم الهوات الموجودة بين الأنفس، وطيّ صفحات الماضي المشحون بين الفرقاء، والتأليف بين ما تنافر من القلوب!
لم تكن مهمته، رحمه الله، يسيرة، ولئن شكا أحدنا من تعب رحلةٍ من أبوظبي إلى رأس الخيمة مثلاً، ونحن في سيارات فارهةٍ مكيَفةٍ تطأ طُرُقاً مُعبّدة تحفّها الأشجار والاستراحات وأماكن التزوّد بالمؤن والطعام، فإنّ زايد لم يكن يطأ إلا بحاراً متلاطمة من الرمال، التي تلتهب تحت قدميه رمضاؤها.
ويَلِج أوديةً موحشة لا يسكنها إلا الخوف، ولا يؤم فِجاجها إلا الريح وسهام القيظ، كان بإمكانه أن يكتفي بمدينته وأرضه التي نشأ فيها، وكان بمقدوره أن يجعل تلك الثروات التي بدأت تتهاطل بخروج النفط مقصورةً عليه وعلى مَن حوله في أبوظبي، ولم يكن ليلومه أحدٌ لو فعل ذلك، لكنّه كان يرى حُلماً عظيماً، ويحمل لأجله همّاً كبيراً.
ويأخذ على عاتقه من أجله ألا يجعل في تلك القفار من السلع حتى الساحل الشرقي محتاجاً أو خائفاً أو مظلوماً، كان كتلك السحائب المثقلة بالغيث، والتي لطالما انتظرتها العيون ولم تأتِ، واشرأبت لها الأعناق ولم تُظلّ «عراقيب» الديار و«حزومها».
لكنها أتت في صورة أجمل، أتت في هيئة أكمل، أتت في صورة قائد عظيم، له كفّان تُعلمان العطاء، ما لا يحلم به العطاء، وظَهْراً يأمَنُ بهيبته الخوف نفسه، وقلباً كبيراً يلمّ ببياضه جروح القلوب المحزونة وآمال العيون المنكسرة.
استحالت القفار مع زايد، رحمه الله، جِناناً وارفة الظلال، ريّانة الثَمَر، وتصافت القلوب المتنافرة، وأضحت لا ترى من الألوان إلا ألوان رايتها الأربعة، ولا تنافح عن هويّة سوى هويّة واحدة، لها من العروبة والاتحاد ما يكفيها، وخلال سنين يسيرة، حدثت على أراضيها الجرداء المنسيّة ثورة في الحضارة، لا توجد إلا في قصص الأساطير.
فتلك «الصبخة» الملحية، أضحت مدينةً تُدعى مصدر، تدهش العالم بمشاريعها في الطاقة النظيفة والشمسية، وتتسابق للتوقيع معها دول أوروبا وأميركا اللاتينية، وخلف تلك الكثبان في المنطقة الغربية، والتي لم يكن يمر بها إلا الخوف ولواهيب القيظ، تقف أربعة مفاعلات نووية كأول مشروع من نوعه في العالم، وعلى تلك الرمال البيضاء التي لا ينبت بها زرع غربيّ زعبيل.
وقف أعظم وأطول برج بنته البشرية في تاريخها الحديث، ومركزاً تجارياً أدار أعناق الدنيا حتى «تطرقعت» عظامها، وبمكان ليس ببعيد، تتسارع أيادي أبناء زايد لبناء مسبار فضائي لارتياد المريخ، وقطع 60 مليون كيلومتر من خلال وكالة الفضاء، وبجانبهم أيادٍ إماراتية أخرى تسابق الزمن لبناء أول قمر صناعي عربي باسم «خليفة سات»، بينما قُدّمت جزيرةٌ منسية، اسمها السعديات، لتصبح عاصمة للفن والثقافة والتاريخ الإنساني!
الرمال لا تنبت أحلاماً لوحدها، لكنّ الأفذاذ من يجعلونها كذلك، وما مَر أعلاه، ليس سوى نِزْر يسير مما في الجُعبة من منجزات، فقط قولوا للدنيا إنها لم ترَ شيئاً من «عيال زايد» بعد!
* نقلا عن البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة