تأرجحت العلاقة السورية التركية بين البرود واللامبالاة حتى موجة ما سمي بالربيع العربي التي داهمت دمشق لتعتلي تركيا موجتها على حساب سوريا
لم تشهد العلاقات التركية السورية صفاءً عبر تاريخهما الحديث على الرغم من أنهما دولتان متجاورتان بحدود طويلة، بل لطالما اتسمت العلاقات بالانغلاق والبرود حتى قضية اللاجئ الكردي زعيم حزب العمال الكردستاني "عبدالله أوجلان" في سوريا عام 1998، حيث توترت العلاقات حد الصدام العسكري بين البلدين عقب حشد أنقرة قواتها على الحدود مطالبة الجانب السوري بتسليمه لتهدأ الأوضاع بعد أن ألقت تركيا القبض على "أوجلان" أثناء هروبه من سوريا عام 1999 في كينيا.
تأرجحت بعدها العلاقة بين البرود واللامبالاة حتى موجة ما سمي بـ"الربيع العربي" التي داهمت دمشق لتعتلي تركيا موجتها على حساب سوريا نظاماً وأرضاً وشعباً متاجرة بالدماء السورية لإرضاء الأوهام السلطانية الأردوغانية. ولكن لم يحدث أن حصل تصادم مباشر بين دمشق وأنقرة على مستوى الجيوش الرسمية؛ ما جعل الأزمة اليوم من أشد الأزمات خطورة وتماساً بين الطرفين بعد أن تقدمت القوات النظامية المدعومة روسيّاً لتتوغل داخل إدلب بسيطرتها على بلدة "خان شيخون" عاصمة الريف الجنوبي لمحافظة إدلب التي تقع تحت سيطرة "هيئة تحرير الشام الإرهابية، جبهة النصرة" سابقاً المدعومة من أنقرة، وباتت نقطة المراقبة التركية التاسعة- وهي نقاط تم تثبيتها بتفاهمات روسية تركية لضمان هدوء الشمال السوري محاصرة من قوات الحكومة السورية وقد سبقها إصابة رتل عسكري تركي بقذائف من مدفعيات القوات النظامية أثناء مواجهاتها مع الفصائل المسلحة المسيطرة على تلك المنطقة- ما دفع بتركيا وعلى لسان وزير خارجيتها للإدلاء بتصريحات وإن وصفت بأنها دبلوماسية إلا أنها تصعيدية فقد قال "جاويش أوغلو" في تصريح متلفز: "نحذر دمشق من اللعب بالنار"، فهل سيكون اللعب بالنار شرارة لاندلاعها بين الطرفين أم إن الأمر مستبعد؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من قراءة الساحة السياسية والميدانية للأطراف الثلاثة الفاعلة وهي:
لا شك أن الصدام المباشر بين سوريا وتركيا بعيد كل البعد لما تكتنفه من مخاطر لا قبل لتركيا بها من جهة ولقيام السياسة الروسية على التخطيط البطيء لكل خطوة قبل التقدم في الميدان انطلاقاً من الوقائع السياسية والميدانية والحفاظ على التوازنات الاستراتيجية من جهة أخرى
روسيا: فقد دخلت روسيا الساحة السورية بخط واضح لا لبس فيه كداعم للحكومة السورية وعلى الأصعدة السياسية والدبلوماسية والعسكرية كافة، وتبني القضية السورية كأنها قضية روسية ما أسبغ عليها إدارة الدولة العظمى في توجيه دفتها على المستويين الداخلي السوري والخارجي الدولي، فعملت روسيا على دخول الصراع المسلح مباشرة بالسلاح والطيران.
كما عمدت إلى فرض المصالحات في مناطق التوتر باعتبارها الضامن للحكومة السورية لتطبيق بنود المصالحات كما عملت على الساحة الدولية بلعب الأوراق السياسية في المؤتمرات والمحافل الدولية والعمل على إرساء مبدأ التوازنات الاستراتيجية التي كان لتركيا نصيب كبير منها- كما حدث في حلب إبان عام 2016 عندما احتدم الصراع بين الفصائل الموالية لتركيا من جهة والقوات الحكومية من جهة أخرى- إلى أن احتوت روسيا الصراع الذي كاد أن يؤدي إلى صدام مباشر سوري تركي فعمدت روسيا إلى امتصاص الحنق التركي بتفاهمات على مناطق وأوراق سياسية أخرى مقابل صمت تركيا عما جرى في حلب، بالإضافة إلى إفهام حكومة العدالة والتنمية رسالة وبطريقة غير مباشرة عن طريق مشاركة روسيا في الصراع وبشكل مباشر بأن المسألة ليست سوريّة فقط بل روسيّة أيضاً ما دعا أنقرة إلى الرضوخ والرضا بما قدمته موسكو من ضمانات وتفاهمات لتركيا، فكانت موسكو ولا تزال تأخذ دور صمام أمان التوازنات على الساحة السورية لعدم إشعال الصراعات الدولية المباشرة على هذه الساحة.
تركيا: فقد دخلت خط المواجهات على الساحة السورية بداية بدعم الحراك في سوريا سياسياً حتى اندلاع الصراع المسلح. بعدها قامت أنقرة وعلانية بتقديم الدعم السياسي والعسكري واللوجستي لفصائل متطرفة بعينها لتنفيذ الأجندات التركية. ولكن بعد دخول روسيا بشكل مباشر إلى الصراع، غيرت أنقرة سياستها من الدعم إلى تكوين الفصائل المتطرفة مثل إقدام أنقرة على حبس الكثير من الضباط السوريين (المعتدلين) الذين "انشقوا" عن المؤسسة العسكرية السورية للجوء في مخيمات تحت سيطرتها، مقابل إطلاقها العنان للمتطرفين منهم بعد ربطهم بها وبقرارها السياسي المباشر ولا سيما بعد إخضاع حلب لسيطرة القوات النظامية عام 2016 وما تزامن معها فيما بعد من خلافات بين أنقرة وواشنطن، مما اضطر تركيا إلى إحداث تغييرات على المستويات السياسية بمحاولة المحاباة لروسيا مع القناعة التامة لدى الساسة الأتراك بالدعم الروسي للجانب السوري ولكنها سياسة الأمر الواقع مما يجعل التصريحات التركية مجرد دعاية إعلامية إذ لا قبل لها بالصراع المباشر مع دمشق ليس بسبب القوة السورية بل إن أنقرة تدرك مغبة مثل هذا التهور في إقحام الجيش التركي بمستنقع لا يمكن الخروج منه في ظل هذا الدعم الروسي من جهة وكون القوات السورية باتت قوة لا تخشى على اقتصاد أو بنية تحتية أو قوة عسكرية، فهي في وسط الجحيم ولن يضيرها حمم أخرى. أما تركيا فتكلفها مثل هذه الخطوة الكثير لا سيما على المستوى القانوني الدولي، وهي التي تعلم بأنها ستكون الضحية التي ينتظرها الكثير لتقع فتكثر سكاكينها لما خلقت لنفسها من أعداء إثر سياستها الرعناء فباتت رهينة للسياسة الدولية والتخبط. فتارة تميل للجناح الأمريكي وتارة للجناح الروسي، ولكنها على يقين بأن هذه القضية مرتبطة بالجانب الروسي ولا قبل لها بمواجهتها دون تفاهمات مع روسيا. ولذلك نجد أنها بدل أن تواجه مصيرها على الميدان السوري بتنفيذ وعيدها الأجوف يتوجه رئيس النظام التركي "أردوغان" بعد يومين إلى "روسيا" بغية البحث عن حل في موسكو خوفاً من موجة لجوء جديدة.
سوريا: سنوات طويلة من الحرب جعلت من سوريا دولة منكوبة على مبدأ لم يبقَ هناك ما يخشى عليه من الدمار، إلا أنها تستند على الدعم الروسي الذي طال كل مفاصل الدولة السورية لا سيما على الأرض والميدان فباتت روسيا هي المخطِّط والموجه للميدان السوري، فلا يخفى على أحد أن الهجمات الأخيرة على "إدلب" والسيطرة على "خان شيخون" كانت بإيعاز من "روسيا" بل وبمشاركة مباشرة على الرغم من التفاهمات الروسية التركية كبلورة من روسيا لسياستها القائمة على تقليص الأوراق السياسية والميدانية لمن يشاطرها الميدان السوري مع الحفاظ على التوازن الاستراتيجي وتجنب الصراعات الدولية (لاحظ تغييب إيران عن معركة إدلب ولو ظاهريا ولكنها خطوة تعمل عليها موسكو بصمت لتصل إلى مبتغاها في التفرد بالساحة السورية) وهي حقيقة تدركها دمشق لذلك تتصرف وفق السياسة الروسية دون الخوف من أي مآلات لها فأطبقت الخناق على الريف الشمالي لحماة و"خان شيخون" في الريف الجنوبي لإدلب وجعلت نقاط المراقبة التركية محاصرة لتثبت أقدامها وهي على دراية بأن الأمر سيحل سياسياً ودبلوماسياً على يد الحليف الروسي مع تركيا.
لا شك أن الصدام المباشر بين سوريا وتركيا بعيد كل البعد لما تكتنفه من مخاطر لا قبل لتركيا بها من جهة ولقيام السياسة الروسية على التخطيط البطيء لكل خطوة قبل التقدم في الميدان انطلاقاً من الوقائع السياسية والميدانية والحفاظ على التوازنات الاستراتيجية من جهة أخرى. إلا أن ما يميز هذه الخطوة - التقدم في إدلب - أنها صفعة قوية لتركيا والفصائل المتطرفة الموالية- التي لا تأخذ بعين الاعتبار لا هي ولا غيرها من المتحاربين على الأرض السورية قضية المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة- لتجعلها على محك التحجيم والتخلي عن الأوهام مقابل السياسة الواقعية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة