الديون تفتك بالعالم النامي.. انتكاسة تاريخية في مسيرة التنمية
اعتبر تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز أن الديون باتت تفتك بالعالم النامي في ظل المتغيرات الجيوسياسية التي تحيط بالكوكب.
واستشهد التحليل بحالة كينيا التي شهدت اندلاع احتجاجات عنيفة في نيروبي في يونيو/حزيران الماضي فجأة، كرد مباشر على اقتراح الحكومة لمشروع قانون مالي مثير للجدل في الشهر السابق كان سيزيد الضرائب جزئياً لسداد ديون البلاد.
وأجبرت أعباء الديون في كينيا قادتها على مواجهة سلسلة من الخيارات المستحيلة. ففي العام الماضي، خفضوا الميزانية الفيدرالية، بما في ذلك الإنفاق على الصحة، لتوفير الأموال لخدمة الديون؛ كما تأخرت الحكومة في دفع رواتب الموظفين المدنيين.
وفي فبراير/شباط، رغم هذه التدابير، اضطرت نيروبي إلى إصدار سند دولي بفائدة مذهلة تصل إلى 10%، مقارنة بنحو 6% على السندات التي أصدرتها في عام 2021، لإعادة تمويل ديونها القائمة وتلبية احتياجات التنمية.
والآن تنفق كينيا 75% من إيراداتها الضريبية على خدمة الديون.
وتحت ضغط الاحتجاجات، رفض الرئيس ويليام روتو مشروع القانون المالي رغم حصوله على موافقة البرلمان. ولكن الأزمة الأكبر في كينيا لا تزال قائمة. ومثل العديد من البلدان في أفريقيا والعالم النامي، فإن المكاسب الاقتصادية التي حققتها كينيا في العقدين السابقين لجائحة كوفيد تتراجع.
وفي 38% من البلدان المؤهلة للحصول على مساعدات التنمية من البنك الدولي، يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي اليوم أقل مما كان عليه قبل الجائحة - وهو انخفاض وصفه البنك بأنه "انتكاسة تاريخية في التنمية".
جوهر الأزمة
أما جوهر المشكلة فهو تمويل الديون، والدين ليس بالضرورة سيئا؛ اذ تتحمل كل دولة تقريبًا الديون الخارجية لتغذية اقتصادها. وفي الأوقات العادية، تستطيع أغلب البلدان أن تتحمل عبء خدمة هذا الدين. لكن أربع سنوات من الصدمات الخارجية، بدءا بالجائحة، جعلت المهمة مستحيلة في العديد من الاقتصادات النامية.
وعلى عكس نظرائهم الأثرياء، لم يتمكنوا من دعم اقتصاداتهم خلال الوباء من خلال استغلال الموارد المحلية أو اقتراض الأموال اللازمة. بل استنزفت خزائن الدولة بسرعة، وتراكمت التحديات المالية.
وعندما رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة على سندات الخزانة الأمريكية في مارس/أذار 2022، انخفضت قيمة عملات البلدان منخفضة الدخل وفقدت حكوماتها القدرة على الوصول إلى أسواق رأس المال.
وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بات هناك 19 بلدا غير قادرا على سداد أقساط الديون أو معرضة بشدة لخطر الوصول إلى هذه النقطة.
ومع تحويل الحكومات موارد أكثر نحو خدمة عبء الديون غير القابل للإدارة، تقل الأموال المتاحة للاستثمارات التي يمكن أن تنقذ وتحسن الحياة.
والقيمة الإجمالية لمدفوعات الفائدة التي تدفعها أفقر 75 دولة في العالم، والتي يوجد أكثر من نصفها في أفريقيا، قد تضاعفت أربع مرات على مدى العقد الماضي.
وفي العام الحالي، 2024، ستضطر هذه الدول إلى إنفاق أكثر من 185 مليار دولار، وهو ما يعادل حوالي 7.5% من إجمالي ناتجها المحلي المجمع، لخدمة ديونها. ووفقًا للبنك الدولي، هذا أكثر مما ينفقونه سنويًا على الصحة والتعليم والبنية التحتية مجتمعين.
وعلى الرغم من أن الدول منخفضة الدخل، خاصة في أفريقيا، قد عانت أكثر من هذا التحول، إلا أنه بالفعل يعد أزمة عالمية. فالنمو المتجمد قلل من قدرة الدول على احتواء الأمراض المعدية والتأثيرات الضارة لتغير المناخ.
كما أن الجمود أثار عدم الاستقرار السياسي وأجبر الناس على الهجرة. وهذا يعني أسواقًا أصغر للسلع والخدمات العالمية. علاوة على ذلك، فإن الضغط الاقتصادي يخنق الابتكار الذي يمكن أن يفيد ليس فقط الدول منخفضة الدخل ولكن أيضًا بقية العالم.
واعتبر التقرير أنه لمساعدة الدول منخفضة الدخل على الخروج من أزمة الديون واستعادة النمو العالمي، يجب على الحكومات الثرية زيادة تمويلها لبرامج التمويل الميسرة التي يقدمها البنك الدولي والبناء على جهود تخفيف الديون السابقة، مثل تلك التي نسقتها مجموعة العشرين، والتي تهدف إلى أفقر البلدان.
التمويل الدولي
وقال تقرير فورين أفيرز إن مؤسسة بيل غيتس دعت طويلا إلى إصلاحات في النظام المالي العالمي للسماح بتمويل أرخص للبلدان التي تحتاجه بشدة. وخلال الجائحة، اتخذت المؤسسات الدولية بضع خطوات واعدة في هذا الاتجاه.
وفي عام 2020، أطلقت مجموعة العشرين الإطار المشترك، وهي مبادرة تهدف إلى مساعدة الدائنين على التعاون في إعادة هيكلة الديون للبلدان المقترضة. وفي عام 2021، أتاح صندوق النقد الدولي ما يعادل حوالي 650 مليار دولار في حقوق السحب الخاصة - نوع من الأصول الاحتياطية التي يمكن للمستلمين تبادلها مقابل العملة عند الحاجة.
لكن هذه التحركات لم تكن كافية. فصندوق النقد الدولي وفر إغاثة مؤقتة حيوية، ولكن، لأسباب هيكلية مؤسسية، ذهب النصيب الأكبر إلى البلدان التي لم تكن بحاجة إلى المساعدة، مثل الولايات المتحدة واليابان، في حين أن البلدان الأفريقية حصلت فقط على خمسة في المائة من الإجمالي.
وتابعت مجموعة العشرين تخصيص صندوق النقد الدولي بتعهدها بإعادة توجيه 100 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة، لكن التنفيذ كان بطيئًا، وفي الواقع، لم تكن سوى نسبة ضئيلة من هذه الموارد متاحة للبلدان منخفضة الدخل التي تحتاجها بشدة.
في الوقت نفسه، واجهت دول عديدة تأخيرات في إعادة هيكلة الديون. وحتى الآن، تقدمت أربع دول - تشاد، إثيوبيا، غانا، وزامبيا - بطلب للحصول على معالجة الديون بموجب إطار عمل مجموعة العشرين. كانت تشاد الوحيدة التي أكملت العملية حتى الشهر الماضي، وتمكنت زامبيا أخيرًا من إعادة هيكلة ديونها، بعد أربع سنوات من تقديمها الأول. كما انتهت غانا ودائنوها من اتفاق في يونيو/حزيران من شأنه أن يوفر بعض المرونة لكن الأمر سيستغرق بعض الوقت حتى ينتعش اقتصاد البلاد.
واعتبر التحليل أن جهود صندوق النقد الدولي ومجموعة العشرين كانت حسنة النية، لكن فعاليتها كانت ضعيفة جدا في إتاحة رأس المال منخفض التكلفة لتلك البلدان التي لا تستطيع الوصول إلى المال بأي طريقة أخرى.
مؤسسة التنمية الدولية
وألقى التحليل الضوء في هذا الصدد على دور مؤسسة التنمية الدولية التابعة للبنك الدولي في تقديم التمويل السخي الميسر – القروض والمنح بأسعار أقل من السوق، وأنواع التمويل الأخرى التي تدعم مشروعات التنمية.
والمؤسسة في الواقع هي بنك الملاذ الأخير للدول الخمس والسبعين الأكثر فقراً على هذا الكوكب، حيث تقدم تمويلاً ميسور التكلفة حتى عندما لا تتمكن هذه البلدان من الوصول إلى الأسواق العالمية وعندما تصاب مساعدات التنمية الأخرى بالركود.
وخلال ستة عقود من عملها، ساعدت المؤسسة الدولية للتنمية البلدان على تحسين أنظمتها الصحية والتعليمية، وخلق فرص العمل، وبناء البنية التحتية، والتعافي من الكوارث.
وبحلول عام 2022، كانت 36 دولة كانت تعتمد ذات يوم على تمويل المؤسسة الدولية للتنمية - بما في ذلك أنجولا والهند وكوريا الجنوبية - قد تمكنت من تعزيز اقتصاداتها بما يكفي بحيث لم تعد بحاجة إلى مساعدة البنك. وتحتل 20 دولة منها الآن مرتبة النصف الأعلى من جميع البلدان من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وتساهم 19 دولة الآن في المؤسسة الدولية للتنمية نفسها.
وتعهدت البلدان المانحة، وعلى رأسها الولايات المتحدة (أكبر مساهم)، واليابان، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، والصين، بتقديم 23.5 مليار دولار أمريكي لعملية تجديد موارد المؤسسة الدولية للتنمية في عام 2021.
لكن هذا لا يزال غير كاف لانتشال البلدان المتلقية من الأزمة. وتعمل المساهمات الحكومية على تجديد أموال المؤسسة الدولية للتنمية كل ثلاث سنوات، وقبل الجولة التالية، في وقت لاحق من هذا العام، دعا رئيس البنك الدولي أجاي بانجا الجهات المانحة إلى زيادة مساهماتها بنسبة تصل إلى 25%.
لكن طلب المزيد من المال أمر صعب في وقت تواجه فيه البلدان الغنية قيودها المالية. ومع ذلك، لا يوجد استثمار أفضل يمكنها القيام به لتحسين حياة أفقر الناس في العالم.
حل نظامي
والتحديات التي تواجهها البلدان المنخفضة الدخل ليست نتيجة للاقتراض العشوائي، بل هي نتيجة للصدمات الناجمة عن تغير المناخ، والأوبئة، والحروب البعيدة. وفي كثير من الحالات، يكون الحصول على قروض أرخص لهذه البلدان كافيا لاستعادة النمو، والبناء نحو عالم أكثر ازدهارا واستقرارا ــ وهي النتيجة التي تصب في مصلحة الجميع.
لكن تحليل فورين أفيرز اعتبر أنه حتى لو زادت التبرعات للمؤسسة الدولية للتنمية، فإن البلدان التي تتلقى أموالاً من البنك سوف تستمر في نضالها دون تخفيف أعباء الديون على نطاق واسع.
وتتلخص الخطوة الأولى لجعل هذا التخفيف ممكناً في إصلاح الإطار المشترك لمجموعة العشرين. فقد فشل المقرضون حتى الآن في الاتفاق على كيفية تقاسم تكاليف تخفيف أعباء الديون، والآن حان الوقت لكي يدركوا أن الإجراءات المصممة لعالم ما قبل عشرين عاما ــ آخر مرة تعاملوا فيها مع أزمات الديون في العديد من البلدان في وقت واحد ــ بحاجة إلى التحديث.
ويمكن أن يؤدي هذا إلى حلول أكثر تفصيلاً. على سبيل المثال، تلتزم البلدان التي تواجه تحديات السيولة بالاستثمار في برنامج للنمو المستدام والشامل مقابل الحصول على تمويل إضافي من بنوك التنمية المتعددة الأطراف، بما في ذلك المؤسسة الدولية للتنمية، بما يحقق استقرار مالي. ولا بد من تحديد التفاصيل في كل حالة، ولكن النهج الجماعي في هذا الاقتراح يبدو واعدا.
ويدرك زعماء البلدان النامية يدركون أن تمويل الديون ليس طريقاً ذو اتجاه واحد. وقد أكد رؤساء غانا وكينيا وزامبيا على هذه النقطة في مقال نشروه في مجلة الإيكونوميست في مارس/آذار الماضي.
وكتبوا: "يجب على أفريقيا أن تبحث في الداخل عن حلول". ويتعين علينا أن نستثمر قروضنا في نمو القارة، وخلق فرص العمل، وتوليد الإيرادات، وليس في الاستهلاك الذي لن يسدد لنا ديننا على المدى الطويل؛ التأكد من أن مشاريع التطوير عالية الجودة، وأسعارها صحيحة، وتنتهي في الوقت المحدد؛ والبدء في النظر إلى بعضنا البعض كشركاء تجاريين رئيسيين وليس في الخارج.
وإذا فشل زعماء المؤسسات المالية العالمية والدول الغنية في القيام بدورهم، فهناك احتمال حقيقي للغاية بأن تعاني عشرات الدول من الضعف لعقد من الزمان أو أكثر.
ولكن من خلال الإصلاحات والاستثمارات الصحيحة، تستطيع هذه البلدان توفير احتياجات شعوبها والتغلب على ديونها، وربما إلى الأبد.
ويمكنها بذلك أيضا تحرير الموارد اللازمة لبناء القدرة على الصمود على المدى الطويل في النظم الصحية والغذائية. وبالتالي، فهذه هي استثمارات ذكية من شأنها أن تحقق فوائد اقتصادية وصحية وأمنية ليس فقط للبلدان المتلقية بل للعالم أجمع.