ثمانية عقود من التحولات الكبرى في النظام المالي العالمي

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يكن الاقتصاد العالمي بمنأى عن التحولات الدراماتيكية التي أعادت رسم خريطة المال والتجارة.
فبين نظام "بريتون وودز" الذي وضع الدولار في قلب النظام النقدي العالمي، وصعود اليابان كقوة اقتصادية جعلت الين عملة منافسة، وصولًا إلى ولادة اليورو كأول تجربة وحدوية في التاريخ النقدي، تتكشف ملامح ثمانية عقود شكلت مصير الأسواق والمؤسسات المالية.
بريتون وودز.. ولادة هيمنة الدولار
وفي يوليو/تموز 1944 اجتمع ممثلو 44 دولة في بلدة بريتون وودز الأمريكية لتأسيس نظام مالي جديد ينهي فوضى ما بعد الحرب. وتقرر حينذاك ربط العملات بالدولار وربط الدولار بالذهب بسعر ثابت. فولدت بذلك حقبة جديدة جعلت العملة الأمريكية "حجر الأساس" في الاقتصاد العالمي، فيما بقيت عملات مثل الين الياباني والجنيه الاسترليني في موقع ثانوي بانتظار فرصة الصعود.
المعجزة اليابانية وتحوّل الين
وبين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، أعادت اليابان بناء اقتصادها المدمَّر لتصبح قوة صناعية هائلة. وغزت شركات الإلكترونيات والسيارات اليابانية العالم، وارتفع معها وزن الين تدريجيًا. وظل سعره مثبتًا أمام الدولار حتى مطلع السبعينيات، لكن "صدمة نيكسون" عام 1971 -التي أنهت قابلية تحويل الدولار إلى ذهب- فتحت الباب أمام تعويم العملات، فبدأ الين رحلة صعوده العالمي.
أزمات النفط والتضخم العالمي
وكان عام 1973 قد شهد تغيير "حظر النفط العربي" لملامح الاقتصاد الدولي. وارتفعت أسعار الطاقة بشكل صادم وأطلقت موجات تضخم واسعة النطاق، ثم تكرر المشهد مع الثورة الإيرانية عام 1979.
ورغم أن هذه الأزمات عززت موقع الدولار كعملة تسعير النفط، فإنها لم تمنع اليابان من الحفاظ على زخمها التصديري، وهو ما مكّن الين من تعزيز قوته تدريجيًا.
اتفاق بلازا.. لحظة مفصلية
وفي منتصف الثمانينيات، تفاقم العجز التجاري الأمريكي ودفع واشنطن إلى الضغط على شركائها. وتم توقيع اتفاق بلازا عام 1985 بين الولايات المتحدة وأربع دول كبرى أخرى، لخفض قيمة الدولار مقابل العملات الرئيسية. والنتيجة كانت ارتفاعًا هائلًا في قيمة الين، الذي تحول خلال سنوات قليلة إلى أحد أعمدة النظام النقدي العالمي. لكن هذا الصعود السريع أدى لاحقًا إلى فقاعة اقتصادية داخل اليابان، انفجرت مع بداية التسعينيات وأدخلت البلاد في "العقد الضائع".
اليورو.. ولادة حلم أوروبي
وبينما كانت اليابان تعاني تباطؤًا اقتصاديًا، كان الاتحاد الأوروبي يمضي في مسار مختلف. بعد سقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا، اكتملت ملامح مشروع العملة الموحدة.
وفي 1999 أُطلق اليورو إلكترونيًا، ثم ظهر في صورة أوراق نقدية وعملات معدنية عام 2002. ومثّل ذلك لحظة تاريخية، إذ أصبح اليورو ثاني أكبر عملة احتياطية في العالم، ورمزًا لتكامل قارة تجاوزت قرونًا من الصراعات.
الأزمات تختبر قوة العملات
ولم يمر العقد الأول من القرن الجديد بسلام. فقد ضربت الأزمة الآسيوية عام 1997 عملات المنطقة، فيما صمد الين نسبيًا لكنه لم يسلم من آثار التباطؤ الياباني.
وبعدها بسنوات، عصفت الأزمة المالية العالمية 2008 بالاقتصاد الدولي. انهارت البنوك، وتدفقت رؤوس الأموال نحو الدولار والين كملاذات آمنة. أما اليورو فواجه ضغوطًا كبيرة بسبب تعرض البنوك الأوروبية للأزمة، لكنه حافظ على مكانته بفضل تدخلات البنك المركزي الأوروبي.
لكن الأصعب جاء مع أزمة ديون منطقة اليورو (2010-2012) التي ضربت اليونان وإسبانيا والبرتغال. بدا اليورو حينها مهددًا بالانهيار، غير أن قرارات حاسمة من البنك المركزي الأوروبي – أبرزها برنامج شراء السندات – أنقذت التجربة الوحدوية من التفكك.
صعود العملات الرقمية
ونشأت العملات الرقمية والمشفرة في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008، حيث ظهرت الحاجة إلى نظام مالي بديل لا يعتمد على البنوك المركزية والسلطات التقليدية. وفي عام 2009، تم إطلاق أول عملة رقمية مشفرة، وهي "البيتكوين"، من قبل شخص مجهول يُعرف باسم "ساتوشي ناكاموتو"، لتكون وسيلة دفع لامركزية وآمنة تعتمد على تكنولوجيا "البلوك تشين". منذ ذلك الحين، شهدت العملات الرقمية نمواً متسارعاً، وظهرت آلاف العملات الأخرى مثل الإيثيريوم والريبل، وأصبح لها دور متزايد في الاقتصاد الرقمي. ساهمت عوامل مثل تطور التكنولوجيا، وانتشار الإنترنت، وفقدان الثقة في الأنظمة المالية التقليدية، في تعزيز مكانة هذه العملات كأصول استثمارية وأدوات مالية بديلة.
كورونا.. اختبار غير مسبوق
وفي عام 2020 دخل العالم في ركود عميق بفعل جائحة كورونا، حيث اهتزت الأسواق وتراجعت التجارة وواجه النظام المالي صدمة هائلة.
واستفاد الدولار من اندفاع المستثمرين نحو السيولة، بينما ظل الين محافظًا على موقعه كعملة ملاذ آمن. وأثبت اليورو مرونة غير متوقعة، بعدما تبنى الاتحاد الأوروبي حزم إنقاذ مشتركة عززت الثقة في مستقبله.
وفي العقد الأخير، استمر الدولار مهيمنًا، إذ يشكل أكثر من نصف الاحتياطيات العالمية. ويأتي اليورو ثانيًا بنسبة تقارب الخُمس، بينما يحتفظ الين بالمركز الثالث. لكن ثمة لاعب جديد يلوح في الأفق: اليوان الصيني، الذي تسعى بكين إلى ترسيخه كعملة دولية، وهو ما قد يعيد رسم التوازنات في العقود المقبلة.
تحولات فارقة
وما بين صدمة نيكسون، اتفاق بلازا، إطلاق اليورو، وأزمات مالية متعاقبة، تشكلت معالم النظام النقدي الدولي الحديث. الدولار ظل العمود الفقري، لكن الين الياباني واليورو الأوروبي أثبتا أن هناك بدائل يمكنها أن توازن كفة النفوذ المالي. وأظهرت ثمانية عقود من الأحداث إن العملات ليست مجرد أوراق نقدية أو أدوات للتبادل، بل هي انعكاس مباشر لموازين القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية. واليوم، بينما يتأهب العالم لتحولات جديدة قد تأتي من آسيا والصين تحديدًا، يبقى الدرس الأهم أن النظام المالي العالمي في حركة دائمة، وأن لحظة استقرار طويلة الأمد لا تزال بعيدة المنال.