مظاهرات العراق.. استحقاقات الداخل والاشتباك الإقليمي–الدولي
بغض النظر عن التوصيف السياسي للحدث العراقي إلا أنه يشكلُ تعريةً لهشاشة العملية السياسية وعدم تلبيتها للمتغيرات السياسية والاجتماعية.
إن ما يحدث في العراق من مظاهرات منذ بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي خلفت مئات الضحايا وآلاف الجرحى، يفرض على الباحث تحديد ماهية هذا الحدث بدقة بغية فهمه من جهة، وتأسيس أرضيةٍ مناسبةٍ لاستشراف تداعياته على الداخل العراقي وعلى المنطقة وعلى التوازنات الإقليمية–الدولية الدقيقة، ولا نعني هنا سوى الصراع الأمريكي–الإيراني الذي قارب مستوى الاشتباك خلال الأشهر الماضية دون الوصول إليه، الأمر الذي فرض إيجاد ساحاتٍ ورئاتٍ ليتنفسَ هذا الصراع من خلالها، وقد تشكل الساحة العراقية أنسب ساحةٍ لهذا الصراع نظراً لأوراق القوة التي يمتلكها الجانبان في هذا البلد، وحيوية الحركة لكليهما، ومن هنا فإنه من الجدير تحديد مجموعة من المفاهيم لمقاربة الحدث العراقي ومنها:
- ماهية الحدث العراقي
إن المظاهرات في العراق بدأت مطلبية-اجتماعية مناهضة للفساد والفشل الحكومي بل فشل الطبقة السياسية برمتها في تقديم نموذج معقول ومقبول في الإدارة والحكم منذ عام 2003 حتى الآن، إلا أنها ما لبث أن تحولت إلى حراك سياسي وضع البلاد أمام أسئلة واستحقاقات وطنية رفعت السقوف وجعلت الحلول تتجاوز الإجراءات والقرارات إلى إعادة النظر بالعملية السياسية ما يضع السلطة والشعب أمام خيارات قد تشكل فرصةً لبناء الدولة الوطنية المستقلة أو قد تكون خطوة نحو المجهول والفوضى ومزيد من الانقسام والتفرقة وتكريس منطق الفئوية والطائفية.- لوموند: انتفاضة العراق ولبنان تتحدى "الاحتلال" الإيراني
- ارتفاع عدد ضحايا فض مظاهرات ذي قار العراقية لـ4 قتلى و130 مصابا
- جيوسياسية الحدث العراقي
قد يكون تصنيف الحراك العراقي في إطار الموجة الثانية من الانتفاضات الشعبية التي شهدتها بعض البلدان العربية كالجزائر والسودان أمراً مستساغاً على المستوى المنهجي وفي إطار التحليل السياسي والاجتماعي، إلا أن هذا الأمر فيه شيء من التبسيط والنمطية، وهو بترٌ للعراق من واقعه الإقليمي وطبيعته المغرقة في الخصوصية على المستوى الجيوسياسي والاجتماعي والمذهبي، فما هو السياق الذي يمكن أن نصنف فيه الحدث العراقي، هو بالتأكيد ليس ارتداداً لمآلات الأوضاع في سوريا، وإن كان بعض النظر عما يحدث في شرق سوريا وشمال شرقها يترك وسيترك بعض التأثيرات إلا أنها محدودة ولا تلامس جوهر ما يحدث حالياً، خصوصا مع الأخذ بعين الاعتبار خارطة المظاهرات والاشتباكات التي تمتد من بغداد في الوسط وصولاً إلى الجنوب، إن التعقيد الذي تتصف به الساحة يحتم تفسيره في إطار مقاربة مركبة بين مستويين من مستويات التأزيم، حيث يمكن القول هنا إن ما يحدث في العراق يحمل بعدين رئيسيين الأول مطلبي-سياسي داخلي، والثاني مرتبط بالصراع الإيراني-الأمريكي في المنطقة والتناقضات المتصاعدة بين البلدين.
- التوازنات الإقليمية والدولية
إذن فهناك مستويات للأزمة يملك العراقيون الشق الداخلي إلا أن الاشتباك الإقليمي الدولي خارج عن إرادة الساسة العراقيين، فلإيران والولايات المتحدة أوراق قوة في العراق في التركيبة السياسية وفي الامتداد العسكري، وليس من اليسير أن يتنازل أيٌ منهما عن هذه الأوراق خاصة مع استعار الصراع المحتدم أساساً بينهما، ما يجعل العراق طرفاً في أي مواجهة محتملة بين البلدين فهو يراوح بين كونه ساحة للاشتباك تارة وصندوق بريد تارة أخرى وكرة ملتهبة يتقاذفها الجانبان مرحلياً، وهو محكوم إلى حد بعيد بتوازن القوى ومستويات التأزيم والتوتر بين طهران وواشنطن.العملية السياسية.. هشاشة وثغرات
إن الأزمة الحالية ليست سوى نتاجٍ مباشر لهشاشة العملية السياسية وعدم تعبيرها اللائق عن تطلعات الشعب العراقي واتجاهاته وأولوياته، فرغم مشاركة جميع المكونات العراقية في العملية السياسية؛ فإن الجميع يدعي الغبن والمظلومية، ورغم أن الجميع تطاله لوثة الفساد؛ فإن الجميع أيضاُ ينادي بالإصلاح ومحاسبة الفاسدين، ورغم تورط الجميع بالمحاصصة الطائفية؛ فإن المطالبة بالدولة المدنية تصدح بها جميع منابر الساسة العراقيين، إن استمرار الأزمة بمستواها الحالي كفيل بتفكيك مؤسسات الدولة واحدة تلو الأخرى لنكون أمام مشهد مشابه إلى حد كبير بما حدث صيف عام 2014 مع انهيار فرق كاملة من الجيش والشرطة الاتحادية إثر هجوم داعش وسيطرته على عدد من المحافظات.
أزمة حادة لا ترقى للتقسيم
إن مسألة تقسيم العراق في المرحلة الراهنة ملفٌ مهمل؛ لأنه وإن كان يشكل تهديداً لإيران بمستوى معين إلا أنه يقدم لها في الوقت نفسه العديد من الفرص لتعزيز نفوذها، ولا يفيد التقسيم في هذه المرحلة سوى تركيا اللاعب الصامت والكامن، حيث يحقق لها مجموعة من المكتسبات منها الاستفراد بالأكراد في الشمال وتعزيز نفوذها في الدويلات المفترضة وسطاً وجنوباً لتدخل كلاعب أصلي، خصوصا أنها تمني النفس بسيطرة التيارات الإخوانية على أي جزء يسيطر عليه سنة العراق مع تحسين مكانة التركمان العراقيين في كركوك وغيرها؛ لذا فإن الولايات المتحدة لن تقدم مثل هذه الهدية لإيران والأخيرة بدورها راضية عن مستوى نفوذها الفعلي في العراق عموماً، هي من المفارقات السياسية التي تخدم وحدة العراق اتفاق واشنطن وطهران على منع التقسيم في الوقت الراهن على أقل تقدير.
عادل عبدالمهدي.. متقاعد برتبة رئيس وزراء
ربما كان بالإمكان أن تشكل موجة المظاهرات فرصة ورافعة لرئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي لتعويض مكامن الضعف التي يعاني منها بدءاً من فقدانه للكاريزما التي تؤهله لقيادة بلد كالعراق، مروراً بغياب الحيثية الشعبية والسياسية وصولاً إلى التسوية الهشة التي أوصلته إلى موقعه إلا أنه لم يحسن -أو ربما لا يستطيع- استغلال الفرصة، وهو يعلم أن الاستقالة هي الفصل الأخير في حياته السياسية ما يجعل أي يوم إضافي له في رئاسة الوزراء مكسباً ومغنماً ويعزز هذا الاتجاه عجزُ المكونات السياسية عن إيجاد بديل يلبي طموحاتها ويحتوي الانفجار الاجتماعي؛ لذا فإن عبدالمهدي لن يكون عنواناً لأي تسوية قادمة ولن يشكل طرفاً في أي معادلة أو تحالف سياسي سواء خاض الانتخابات المقبلة أم لم يخضها وله في رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي أسوة حسنة.
الانتخابات المبكرة
قد تشكل الانتخابات المبكرة مخرجاً لائقاً لجميع اللاعبين الداخليين والإقليميين والدوليين ومسكناً مؤقتاً يهدئ روع الشارع ويعيد إلى مؤسسات الدولة شيئاً من توازنها إذا أراد اللاعبون التسوية بالفعل، واستيقنوا من عدم قدرة أي طرف على الحسم السياسي أو الحسم في الشارع، إلا أن الانتخابات المبكرة تحتاج لتسوية مسبقة واتفاق على الآليات القانونية والعملية لتؤدي الانتخابات دورها في احتواء الأزمة والحؤول دون العودة إليها مجدداً خاصة مع فرضية تقول إن الانتخابات ستأتي بمشهد سياسي لا يختلف كثيراً عن المشهد الحالي، وستعيد البلاد إلى المربع الأول ما يجعل من التوافقات المسبقة على المستويات الثلاثة السالفة شرطاً ضرورياً لتجنيب البلاد مزيداً من التوترات والاضطرابات والهشاشة في البنية الإدارية والخدمية مع عدم إغفال التحديات المركبة التي تفرضها أي عملية انتخابية في بلد كالعراق.
الدستور والنظام السياسي.. خارطة طريق أم حقل ألغام
إن المناداة بتعديل الدستور وتغيير النظام السياسي برمته كشرط للدخول في أي تسوية سياسية تشكل اختباراً حقيقياً سيكشف النوايا الحقيقية للسلطة والشارع بل للمكونات السياسية والمكونات المجتمعية، فهل تركن هذه المكونات إلى فكرة تجاوز نظام المحاصصة الطائفية إلى منظومة الدولة الوطنية المدنية وتعديل النظام من برلماني إلى رئاسي بعد قرابة عقدين من التجربة النظام البرلماني الذي كرس المحاصصة والطائفية على مستوى عمودي وأفقي، وتشكل المطالبة بتعديل الدستور والنظام السياسي أداة ناجعة في محاصرة الحريق العراقي سواء تمت الاستجابة أم لا، فإن هذا العنوان يكشف عن الماديات التي يمكن أن يذهب إليها الشارع والسلطة على حد سواء وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ما يطرح من إلغاء للعملية السياسية قبل إيجاد بديل لها لا يشكل خارطة طريق بقدر ما يشكل حقل ألغام لا يقود العراق إلى التقسيم الذي يتوقف على إرادة دولية بقدر ما يقوده إلى الفشل والفوضى والأزمات المزمنة.
الموجة الثالثة والجولة الحاسمة
إن التجارب التي مرت بها المنطقة خلال عقد مضى أدت إلى إضعاف مفهوم الدولة وبنيتها، وقضت على دول أخرى دون أن يتمثل الشارع في العملية السياسية الجديدة الأمر الذي جعل منه فتائل تفجير ومكامن استياء وسخط مع حالة من الإحباط المتراكم نتيجة الأداء المتردي للدولة في أغلبية البلدان التي شهدت حراكات أو ثورات فيما تواجه بعض الدول غياباً تاماً للبديل الذي ينوب عن الحكومات الشمولية التي أُسقطت في الشارع، والسيناريوهات التي شهدتها دول كالسودان والجزائر لو تم تنفيذ أي منها في العراق فإن النتائج ستكون مشابهة للوضع في ليبيا ولكن بشكل مضاعف نظراً لعدد السكان والتنوع العرقي والمذهبي.