معضلات ما بعد الجولة الأولى لانتخابات تونس
يتميز الواقع السياسي التونسي الذي ستجرى فيه الجولة الانتخابية الثانية بدرجة عالية من التعقيد مقارنة بما كان عليه الوضع في عام 2014.
تمت الجولة الأولى للانتخابات التونسية في مناخ ديمقراطي يستحق الإشادة، فقد تنوعت البدائل والخيارات -ربما أكثر مما يجب- أمام الناخبين بوجود 26 مرشحا لرئاسة الجمهورية بين حزبيين ومستقلين، وأجريت 3 مناظرات بين 24 مرشحا فيما حالت ظروف اثنين من المرشحين دون مشاركتهما، وتولت مراقبة العملية الانتخابية هيئات رسمية وجمعيات أهلية تونسية وغير تونسية.
أما وقد انتهت الجولة الأولي بتأهل المرشح المستقل قيس سعيد للجولة الثانية بحصوله على 18.4% من الأصوات ومرشح حزب "قلب تونس" نبيل القروي بحصوله على 15.6% من الأصوات، فإنها كشفت عن مجموعة من المعضلات الأساسية التي تواجه الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، جزء من هذه المعضلات مرتبط بأزمة أكبر تخص الديمقراطية بركائزها المتعارف عليها، لكن جزءاً آخر مرتبط بتعقيدات الواقع التونسي نفسه، فإلي أين إذن تتجه البلاد بعد الجولة الانتخابية الأولى؟
الديمقراطية غير الحزبية كجزء من ظاهرة عالمية
حتى نحو عقدين من الزمان كانت الأحزاب السياسية بوظائفها المعروفة تمثل جوهر العملية الديمقراطية، وكان التحول للديمقراطية يرتبط بالتعددية السياسية وفي القلب منها التعددية الحزبية، لكن بالتدريج أخذت الحركات الاحتجاجية تثبت قدرتها على الحشد والتأثير، بل وعلى سحب البساط من تحت أقدام الأحزاب السياسية، وهكذا فبعد أن كانت المشكلة الأساسية هي في غياب البيئة السياسية والقانونية التي تسمح بتكوين الأحزاب السياسية أصبحت المشكلة هي أن انفتاح هذه البيئة أمام عدد كبير من الأحزاب لم يقترن بفعالية سياسية تذكر، وهكذا انخرط الشباب في حركات احتجاجية تطالب بوضع معيشي أفضل أو ببيئة أنظف أو بالمساواة أو بالتغيير السياسي.
في الجولة الأولى للانتخابات التونسية حدث شيء يشبه هذا، وإن لم يكن يطابقه بالضبط، فقيس سعيد هو أستاذ قانون مستقل يرفض الأحزاب السياسية ويشكّل بذاته بؤرة لحملة انتخابية شبابية يجمع بين مكوناتها رفض الوضع القائم والتمرد على صيغة التوافقات الحزبية التي قامت عليها العملية السياسية اعتبارا من عام 2011، هذه التوافقات التي تمت أولا بين "حركة النهضة" الإخوانية وحزبين من يسار الوسط هما حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" وحزب "التكتل من أجل العمل والحريات"، ثم انتقلت "حركة النهضة" إلى الضفة الأخرى لتتوافق مع حزب "نداء تونس" الوفّي للتراث البورقيبي.
ومع أن حملة قيس سعيد يلتقي فيها التياران الديني واليساري كانعكاس لتوجهاته المحافظة والاشتراكية، إلا أن هذا التلاقي بعيد عن الأحزاب السياسية.
أما ماذا سيفعل سعيد بهذه الكتلة الانتخابية بعد الجولة الثانية، سواء فاز فيها أو لم يفز، فهذا سؤال سيكون عليه أن يجيبه؛ لأن الاحتفاظ بهذه الكتلة التي يطلق عليها نواة الكتلة التاريخية سيحتاج إلى إطار ينظمها وإلا تفككت، وهذا يتطلب منه تعديلاً في مواقفه التي ترفض الأطر التنظيمية.
أما رجل الأعمال نبيل القروي، فصحيح أنه كان قياديا في حزب "نداء تونس" وساند الباجي قايد السبسي الرئيس التونسي الراحل في انتخابات الرئاسة عام 2014، ثم انشق عن النداء وأسس حزبا خاصا به هو حزب "قلب تونس"، لكن في الواقع لا أحد في البلاد يعرفه باعتباره زعيما حزبيا بل بوصفه صاحب قناة "نسمة" الفضائية وصاحب مجموعة "قروي وقروي" التي كوّنها مع أخيه لتخدم الفقراء والمهمشين، ومن داخل هذه القناة ومن واقع تلك المؤسسة الخيرية اكتسب شهرته الواسعة، أما حزبه فإنه ارتبط أكثر بقرار ترشحه للانتخابات الرئاسية وسبق انعقادها بشهور قليلة دون أن يرتبط ببرنامج منفصل عن النداء.
والخلاصة أن انتخابات الإعادة في الجولة الثانية ستجرى بين مُرَشَحَين أحدهما وهو قيس سعيد لن تكون له في حال فوزه كتلة حزبية تدعمه في البرلمان وتساند مشروعه السياسي "اليوتوبي"، والآخر وهو نبيل القروي قد تكون له، لو فاز، كتلته الحزبية داخل البرلمان لكنها هشة وقابلة للتفكك.
تعقيدات الواقع التونسي
يتميز الواقع السياسي التونسي الذي ستجري فيه الجولة الانتخابية الرئاسية الثانية بدرجة عالية من التعقيد مقارنة بما كان عليه الوضع في عام 2014.
أحد مصادر التعقيد هو أننا بعد الجولة الانتخابية الأولى صرنا أمام مرشحَيَن متأهلَين للانتقال للجولة الانتخابية الثانية بنسبة ضعيفة من أصوات الناخبين على عكس ما كان عليه الحال في عام 2014، ويكفي هنا للمقارنة القول إن نسبة ما حصل عليه قيس سعيد ونبيل القروي مجتمعَين من أصوات بلغت نحو 34% بينما أن هذه النسبة تقل عما حصل عليه السبسي وحده من أصوات في الجولة الأولى عام 2014 وكانت تبلغ نحو 39%، وتقل قليلا عن نسبة ما حصل عليه المنصف المرزوقي وحده من أصوات وكانت تبلغ نحو 33%. مثل هذه النتيجة تسبب فيها الإقبال الواسع على الترشح وانقسام التيارات السياسية، أو العائلات السياسية كما تُسمّي في تونس، إلى عدد أصغر يحمل نفس أفكار التيارات التي انشق عنها وينافسها على الرئاسة.
إلي أين ستذهب أصوات الخاسرين في الجولة الانتخابية الأولى؟ هذا سؤال مهم لأنه سيحدد حظوظ الفوز بالنسبة للمتأهلَين للجولة الثانية. ومن جانبهم أعلن أربعة من المرشحين الحزبيين الخاسرين واثنان من المرشحين المستقلين دعمهم لقيس سعيد في الجولة الانتخابية الثانية. أما هذه الأحزاب فإنها النهضة والاتحاد الشعبي الجمهوري والتيار الوطني الديمقراطي وحراك تونس الإرادة، وأما المستقلان فهما حمّادي الجبالي وسيف الدين مخلوف، ونسبة ما حصل عليه هؤلاء مجتمعون من أصوات تبلغ نحو 30.55%.
أما المجموعة التي لم تفصح بعد عن تأييدها لا لقيس سعيد ولا لنبيل القروي، فإن نسبة ما حصلت عليه من أصوات يبلغ نحو 35.35%. وبالتأكيد في هذه المجموعة من سيدعم قيس سعيد وفيها أيضا من سيدعم نبيل القروي، المهم هو الأوزان النسبية للأصوات التي ستذهب لهذا أو ذاك، ففي داخل هذه المجموعة من حصل على أكثر من 10% من الأصوات أي عبدالكريم الزبيدي، وفيها من حصلوا على أقل من 1% من الأصوات وهؤلاء عددهم كبير بالمناسبة "تحديدا 14 مرشحا".
والخلاصة أن نتيجة الجولة الثانية وإن كان فوز قيس سعيد فيها مرجحا في رأي كثيرين لكن فوزه ليس محسوما، وهذه النتيجة سوف تتأثر بنسبة التصويت بالمقارنة مع الجولة الأولى، كما سوف تتأثر بمدى التزام القواعد الحزبية وأنصار المرشحين المستقلين بالتصويت في اتجاه واحد.
مصدر آخر للتعقيد وهو مصدر بالغ الاستثنائية في الواقع هو المتعلق بالوضع القانوني لنبيل القروي، وتلك نقطة أثيرت من اللحظة الأولى لقبول أوراق القروي وهو محط شكوك، فنحن إزاء مرشح محبوس احتياطيا على ذمة قضايا تتعلق بالتهرب الضريبي وغسيل الأموال، لم يُسمَح له بالمشاركة في المناظرات التي جرت في الجولة الأولى ولا يزال. هذا الوضع وصفه قيس سعيد نفسه بأنه "وضع غريب بكل المقاييس".
ويضيف آخرون أنه أيضا وضع مريب، وذلك بالنظر إلى أن موضوع اتهام القروي بالفساد المالي مثار منذ فترة طويلة لكن القبض عليه لم يتم إلا قبل انطلاق حملات الدعاية الانتخابية في الجولة الأولى، هذه واحدة. والثانية أن مبررات الحبس الاحتياطي كما يذهب بعض القانونيين لا تنطبق عليه فلا هناك خشية من هروبه من العدالة ولا يوجد هناك خوف من عبثه بأدلة الاتهام، وبالتالي فما لم يتم إيجاد مخرج مناسب فسيظل قدر من الالتباس محيطا بالموقف القانوني من المرشح نبيل القروي.
والواقع أنه في المواقف الدقيقة يحتاج المسؤولون إلى شيء من المرونة في التعامل وطالما أنه لم يُبّت في أمر القروي منذ فُتِح ملف اتهاماته المالية، فمن الممكن إيجاد مخرج لتمكينه من حقه القانوني في الدعاية لنفسه، وقد سبق أن واجهت تونس موقفا صعبا في أعقاب وفاة الرئيس قائد السبسي وتمت معالجته بمرونة وحنكة عاليتين؛ إذ سرعان ما تم تكليف رئيس مجلس النواب بتولي مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة دون انتظار تشكيل المحكمة الدستورية لإعلان شغور المنصب نهائيا إعمالا لنص الفصل 84 من الدستور.
سيناريوهات المستقبل
مستقبل الرئاسة التونسية مفتوح على احتمالات كثيرة، أحد هذه السيناريوهات هو فوز قيس سعيد، وفي حال لم تتح لنبيل القروي حرية التواصل مع الناخبين بشكل أو بآخر، فإن من الوارد قيامه بالطعن على نتيجة الانتخابات لعدم تكافؤ الفرص بينه وبين منافسه، ولا ننسى أن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري طلبتا أكثر من مرة تمكين القروي من حقه في التواصل مع ناخبيه درءاً للمشاكل التي قد تترتب على منعه، علما بأنه في حال قبول الطعن على نتيجة الجولة الثانية والحكم بإلغائها سيصار إلى إجراء انتخابات جديدة.
وهناك سيناريو فوز قيس سعيد دون أن يطعن نبيل القروي على النتيجة، وهنا يصبح سعيد رئيسا للجمهورية التونسية، وهذا السيناريو وارد كما سبق القول إن هو تحقق بعد منافسة انتخابية متكافئة.
سيناريو ثالث هو فوز نبيل القروي نفسه وهو احتمال مستبعد لكنه قائم، فلا ننسى أن القروي جاء في المركز الثاني رغم حبسه، وبطبيعة الحال فإن فوزه سيثير إشكالات من نوع آخر، فبموجب الفصل 87 من الدستور التونسي يكتسب الرئيس الحصانة طيلة توليه الرئاسة وتعلّق جميع الإجراءات القضائية مع إمكانية استئنافها بعد انتهاء مهامه، لكن هناك من القانونيين من يرى أن الحصانة لا تسري بأثر رجعي خاصة أن ما يُنسب للقروي من اتهامات يمس النزاهة والشرف، وهذا يعني أنه حتى لو فاز فلا بد أن يستمر المسار القضائي وقد ينتهي لإدانته، ومثل هذا الإشكال في تفسير الفصل 87 يحتاج رأي المحكمة الدستورية التي لم تتشكل بعد.
هكذا اختار التونسيون مرشحيهم بحرية في الجولة الانتخابية الأولى وذهبت اختياراتهم في كل اتجاه، أما في الجولة الانتخابية الثانية فأظن أن اختيارهم سيكون أصعب.
aXA6IDMuMTQ0LjQ1LjE4NyA= جزيرة ام اند امز