عالم ما بعد كورونا لن يكون مثل عالم ما قبلها، سوف يتغير كثير من المفاهيم، والقيم، والأدوار، وستعيد الدول الجادة التفكير في منظوماتها
في عام 2000 أعددت منهجا جامعيا عن الحضارة الإسلامية، وحين تعاملت مع المكون التاريخي لهذا المنهج لم أجد طريقة أفضل من أن يتم الاقتصار على نقاط التحول الكبرى، أو اللحظات التاريخية الفارقة، التي يكون ما بعدها مختلفا بصورة كبيرة، وجذرية عما قبلها.. وهنا لم أجد في كل تاريخ المسلمين على اتساعه، وثرائه أكثر من عشر لحظات تاريخية فارقة فيه، جعلت ما بعدها مختلفا بصورة جوهرية عما قبلها؛ واليوم، مع انتشار فيروس "كورونا" يعيش العالم هذه اللحظة التاريخية الفارقة؛ وفي الأبعاد الآتية ما يؤكد ذلك:
أولا: إن مصادر قوة عالم اليوم هي ذاتها مصادر ضعفه، ومواطن انهياره، فحالة التداخل والتواصل والاعتماد المتبادل بين دول العالم ومجتمعاته هي مصدر قوة لمن يستطيع أن ينخرط فيها، ويوسع منها، ويصير مرتبطا بالعالم في كل شيء، ولكنها هي في الوقت ذاته موطن من أخطر مواطن الضعف، قد تؤدي إلى انهيار اجتماعي في جائحة مرضية، وانهيار اقتصادي في توابعها، وآثارها. لذلك نجد أقل الدول تأثرا بمخاطر فيروس كورونا الصحية والاقتصادية هي الدول الأقل انخراطا في كل مجالات العولمة خصوصا الاتصالات والاقتصاد والحركة البشرية. وهذه الدول ستكون هي الأقل تأثرا بالآثار الاقتصادية الكارثية التي سوف تتركها هذه الأزمة الصحية على العديد من دول العالم الأكثر تفاعلا في مجالات العولمة.
إن شبكات الترابط العالمي بين الدول والمجتمعات فعالة جداً في المجالات الاقتصادية والسلعية، وفي الترفيه والسياحة والفنون، وفي تدفق المعلومات والأخبار، ولكنها؛ وللأسف الشديد؛ ليست على المستوى نفسه في المجالات الجوهرية لحياة الإنسان
ثانياً: الخلل الشديد في النموذج التنموي المنتشر في عالم اليوم، حيث التركيز الأكبر على القضايا والمجالات غير الجوهرية، والتراجع الخطير في الأوزان النسبية للمجالات الحيوية التي تمثل جوهر وجود الإنسان، فالانشغال الكبير في البحث العلمي بقضايا ذات طبيعة عسكرية، أو فضائية، أو تتعلق بالذكاء الاصطناعي الذي اقتصر على صناعة الإنسان الآلي، أما نصيب الصحة والحفاظ على حياة الإنسان فمتروك للشركات الكبرى التي تحتكر الأدوية، أو تملك المستشفيات، كأن الدولة قد تخلت عن هذا الدور في العديد من مناطق العالم.
ثالثا: لم يعد تصنيف الدول إلى مجموعات ينتمي بعضها للعالم الأول والأخرى للعالم الثالث، وبينهما مجموعة حائرة كانت تسمى فيما مضى العالم الثاني، فقد أثبت انتشار هذا الفيروس أن العالم الأول عند الاختبار الحقيقي ليس أولاً، بل قد يكون ما بعد الثالث، فحالة الارتباك والشلل التي أصيبت بها الدول الأوروبية أمام هذه الجائحة المرضية أثارت العديد من الشكوك حول جوهر التقدم الحضاري الذي تعيشه البشرية، وكيف أنه تقدم مشروط، وقاصر، ومحدود، مشروط بسريان الحياة في إيقاعها الطبيعي، أما إذا خرجت عن ذلك الإيقاع بكارثة صحية؛ فالكل سواء؛ المتقدم وغير المتقدم، وقاصر على مجالات بعينها، وللأسف تأتي الصحة التي تتعلق بجوهر الوجود الإنساني في آخرها، ومحدود بطبقات ونخب ومستويات اقتصادية معينة، أما إذا تعلق الأمر بعموم الناس فتكون النصيحة لهم ما قاله رئيس الوزراء البريطاني لشعبه: عليكم أن تودعوا من تحبون، فالموت قادم.
رابعاً: إن الدولة المتدخلة التي تمتلك رصيدا من مؤسسات القطاع العام، ومن التقاليد الاشتراكية كانت أكثر نجاعة ونجاحاً في مواجهة هذه النوعية من الكوارث، لأن بنية الدولة تأخذ في اعتبارها الجماهير العريضة، والحاجات الاجتماعية الواسعة، أما الدولة الحارسة التي تتبنى النموذج الرأسمالي؛ وتعتمد بصورة كبيرة على المشروع الخاص فقد أصابها العجز والارتباك، لأنها لم تضع في حسبانها الاحتياجات الفجائية لتلك الجماهير العريضة. لذلك نجد الصين أكثر قدرة على التعامل مع هذه الأزمات رغم ضخامة عدد السكان من دول مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا.
خامساً: إن شبكات الترابط العالمي بين الدول والمجتمعات فعالة جداً في المجالات الاقتصادية والسلعية، وفي الترفيه والسياحة والفنون، وفي تدفق المعلومات والأخبار، ولكنها؛ وللأسف الشديد؛ ليست على المستوى نفسه في المجالات الجوهرية لحياة الإنسان، وفي الموضوعات الأكثر تأثيراً على الوجود الإنساني الجمعي، لذلك كان العالم، وما زال مرتبكا في التعامل مع هذه الأزمة الصحية بصورة تفقد فكرة العولمة جوهرها الحقيقي، فلا توجد أطر مؤسسية للعمل الجماعي، كأن الأمم المتحدة وجدت للكلام والخطب فقط، ولم يظهر من مؤسساتها إلا منظمة الصحة العالمية التي كان دورها مثل دور المتحدث الصحفي لأي وزارة أو إدارة، أما أن يكون هناك جهد عالمي لمواجهة الأزمة سواء بالتعامل مع المصابين بها، أو بتطوير أدوية ولقاحات بصورة جماعية فكأنه حلم بعيد المنال.
سادساً: ستعيد التوابع الاقتصادية لجائحة الكورونا ترتيب الأوزان النسبية للاقتصاديات العالمية، سواء على مستوى الدول، أو القطاعات الاقتصادية الرئيسية، وستخرج من هذه الأزمة دولُ قد خسرت الكثير، وأخرى قد كسبت أكثر، وستنهار قطاعات اقتصادية مثل السياحة والسفر وقطاعات الترفيه... إلخ، وستنمو قطاعات أخرى... سيكون الاقتصاد العالمي مختلفا بصورة كبرى بعد مرور هذه الأزمة.
خلاصة القول إن عالم ما بعد كورونا لن يكون مثل عالم ما قبلها، سوف يتغير كثير من المفاهيم، والقيم، والأدوار، وستعيد الدول الجادة التفكير في منظوماتها السياسية والاقتصادية، وسيكون من الضروري التوجه أكثر نحو توسيع دور الدولة في قطاعات الصحة والتعليم والبحث العلمي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة