العجز التجاري الأمريكي.. الأسباب والدلالات
رغم البيانات الرسمية إلا أن مسؤولي الإدارة الأمريكية يصرون على أن جهودهم لضبط السياسة التجارية ستؤتي ثمارها في السنوات المقبلة.
يشكل عجز الميزان التجاري الأمريكي تحدياً جديداً أمام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إذا تشير البيانات إلى مواصلة العجز اتجاهه التصاعدي خلال عام 2018، رغم تعهدات ترامب الانتخابية. كما يأتي تدهور العجز التجاري الأمريكي على الرغم من سياسة تجارية حمائية ينتهجها البيت الأبيض ترفع شعار" أمريكا أولا"، فما أسباب هذا العجز ودلالاته؟
تشير البيات الرسمية إلى مواصلة عجز الميزان التجاري الأمريكي اتجاهه التصاعدي خلال عام 2018، إذ بلغت قيمته 609.4 مليار دولار أمريكي مقارنة بنحو 552.3 مليار دولار أمريكي عام 2017. فبينما شهدت الصادرات السلعية الأمريكية زيادة من 1.553 تريليون دولار أمريكي عام 2017 لتصل إلى 1.694 تريليون دولار أمريكي عام 2018 إلا أن ارتفاع قيمة الواردات- على الرغم من الحرب التجارية التي بدأها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سواء مع حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرهم منذ يناير 2018- حال دون تخفيض عجز الميزان التجاري للولايات المتحدة وطبقاً لتقرير World Economic Prospects الصادر عن Oxford Economics في يناير 2019 من المحتمل نمو الواردات السلعية والخدمية الأمريكية بمعدل يزيد على نظيرة الخاص بالصادرات السلعية والخدمية بقيمة 1.6 نقطة مئوية عام 2019 مقارنة بحوالي 0.6 نقطة مئوية عام 2018، وتوقع التقرير أيضاً استمرار الارتفاع في عجز الميزان التجاري السلعي الأمريكي ليصل إلى 929.7 مليار دولار أمريكي عام 2019.
أمريكا أولا
معارك الحرب التجارية للرئيس ترامب استندت إلى أسس عدة أبرزها وصف الواردات الأجنبية بأنها تهديد للأمن القومي الأمريكي، ويتبع ذلك فرض رسوم جمركية أو حصص استيراد على قوائم تتضمن منتجات سلعية، واعتبرت المؤسسات الاقتصادية أن ردود الأفعال والمعاملة بالمثل واحتمالات تصاعد هذه الحرب من المخاطر التي يمكن أن تؤثر على الاقتصاد العالمي. وشملت أبرز معارك هذه الحرب فرض الرئيس الأمريكي رسوم جمركية على واردات الألواح الشمسية والغسالات لأنها تضر الصناعات الأمريكية، ورسوم جمركية وحصص على واردات الصلب والألومنيوم باعتبارها تهديداً للأمن القومي، ورسوم جمركية على قوائم تضم وارادات منتجات سلعية من الصين نتيجة ممارساتها التجارية التي وصفت بكونها غير عادلة فيما يخص التكنولوجيا والملكية الفكرية، ويدرس الرئيس الأمريكي فرض رسوم جمركية على واردات السيارات وقطع غيارها بمعدل 25%.
وترتكز السياسة التجارية للرئيس الأمريكي ترامب في إطار سياسة "أمريكا أولاً" على المحاور الخمسة التالية:
1) دعم الأمن القومي: فالسياسات التجارية الأمريكية ستستخدم جميع الأدوات الممكنة للحفاظ على السيادة الوطنية للولايات المتحدة وتعزيز اقتصادها وبدون أن يغض الطرف عن أي غش أو اعتداء اقتصادي.
2) تعزيز الاقتصاد الأمريكي: في عام 2017 وقّع الرئيس ترامب مشروع قانون ضريبي جديد يهدف إلى رفع تنافسية الشركات والمشتغلين الأمريكيين مقارنة ببقية العالم. كما بدأت إدارة ترامب في بذل جهود حثيثة لتخفيف اللوائح التنظيمية غير الضرورية التي تعيق الأعمال.
3) التفاوض على صفقات تجارية أفضل: باعتبار أن لفترة طويلة كانت قواعد التجارة العالمية ضد المشتغلين والشركات الأمريكية. وبالتالي ستغير الولايات المتحدة الامريكية أو تنهي الاتفاقيات التجارية القديمة التي تتعارض مع مصالحها الوطنية. وبدأت بالفعل جهود مراجعة الاتفاقيات التجارية مع أمريكا الشمالية (نافتا) ومع كوريا الجنوبية، كما انسحبت الولايات المتحدة من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ. وتعتزم الإدارة الأمريكية متابعة صفقات تجارية جديدة وأفضل مع الشركاء المحتملين في جميع أنحاء العالم.
4) إنفاذ القوانين التجارية الأمريكية: فإدارة الرئيس ترامب ترى أن جميع الدول ستستفيد من تنفيذ سياسات تعزز المنافسة الحقيقية في السوق، غير أن جميع الدول لا تفعل ذلك طواعية، ولذا فإن أجندة الإدارة الأمريكية تتضمن استخدام الأدوات المختلفة لمنع الدول من الاستفادة من الممارسات التجارية غير العادلة.
5) إصلاح نظام التجارة متعدد الأطراف: تريد إدارة ترامب المساعدة في بناء نظام تجاري متعدد الأطراف أفضل وسيظل نشاطها في منظمة التجارة العالمية التي استخدمتها بعض الدول الأعضاء ومنها الصين للحصول على مزايا تكفل لها تجنب اشتراطات النفاذ لأسوقها ويضمن لها تقديم الإعانات والممارسات الأخرى المشوهة للسوق. وستواصل الولايات المتحدة العمل مع الدول ذات التفكير المتشابه معها لبناء نظام اقتصادي عالمي يؤدي إلى مستويات معيشة أفضل في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم.
أسباب تفاقم عجز الميزان التجاري
يمكن إرجاع استمرار تفاقم عجز الميزان التجاري للولايات المتحدة على الرغم من السياسات والحرب التجارية لإدارة ترامب إلى العديد من العوامل:-
تكاليف الصادرات والواردات:
بالنسبة للعديد من المنتجين الأمريكيين الذين تعتمد أجزاء من سلاسل الإمداد الخاصة بهم على الواردات من الصين، فإن تكاليف عثورهم على بدائل من الدول الأخرى أو إنتاج هذه الأجزاء في الولايات المتحدة الأمريكية في الأجل القصير تفوق كثيراً تكلفة الاستيراد من الصين وتحملها تكلفة الرسوم الجمركية الجديدة الناجمة عن هذه الواردات، أي أن تكلفة تسديد الرسوم الجمركية أقل من تكلفة الاستثمارات اللازمة لتجنبها. بالإضافة إلى ذلك قامت العديد من الشركات الأمريكية باستيراد كميات كبيرة من احتياجاتها المستقبلية من البضائع الصينية خوفاً من فرض رسوم جمركية جديدة أو زيادة معدلات الرسوم المفروضة حالياً.
على العكس فإن رد الفعل الصيني على التعريفات الجمركية الأمريكية استهدف المعاملة بالمثل فيما يخص صادرات الولايات المتحدة خاصة في قطاعي الزراعة والطاقة. وساعد توافر المنتجات مثل الصويا والأرز والقمح والزيت والغاز الطبيعي، وهي سلع أساسية على نطاق واسع من مصادر أخرى غير الولايات المتحدة الشركات الصينية ومن ضمنها الشركات المملوكة للدولة على التحول إلى منتجين آخرين خارج الولايات المتحدة الأمريكية بدون الحاجة إلى تحمل تكاليف الرسوم الجمركية المرتفعة. ورفع تكاليف الواردات لتقليل الطلب المحلي عليها ينجم عنه ارتفاع تكاليف الحصول على المكونات الأجنبية التي تدخل كمستلزمات لإنتاج الصادرات الأمريكية وترتفع تكلفتها، ولذا تقل قدرة الأجانب على تحمل التكلفة المرتفعة نسبياً للمنتجات الأمريكية وتنخفض فرص تصديرها.
ويؤكد بعض الاقتصاديين أن الحرب التجارية مع الصين قد لا تحل بالضرورة مشكلة عجز الميزان التجاري الأمريكي السلعي الذي بلغت قيمته حوالي 880.7 مليار دولار أمريكي، واستحوذ عجز التجارة البينية مع الصين على ما يقترب من نصفه (حوالي 417 مليار دولار أمريكي)، ويتوقعون أن استمرار النزاع التجاري مع الصين في الأجل الطويل قد يؤدي بجانب ما سبق إلى تحول العجز التجاري الأمريكي إلى دول أخرى تتمتع بمزايا نسبية مماثلة للصين في إنتاج سلع كثيفة العمالة، كما أن الحرب التجارية مع شركاء الولايات المتحدة التجاريين لا يمكن أن توقف تراجع العمالة الأمريكية بقطاع الصناعات التحويلية إذا كان مدفوعاً بالأساس بالتقدم التكنولوجي السريع، مثل الأتمتة والروبوتات والذكاء الاصطناعي.
قوة الدولار الأمريكي:
شهدت قيمة الدولار ارتفاعاً في مقابل عملات الشركاء التجاريين الرئيسيين للولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يجعل أسعار السلع الأمريكية في أسواق هذه الدول مرتفعة نسبياً بينما تكون أسعار السلع المستوردة من هذه الدول بالنسبة للموجودين في الأسواق الأمريكية أقل تكلفة. وترجع قوة الدولار إلى أنه عملة احتياطية عالمية ويتم بها إجراء معظم معاملات التجارة الدولية، لذا فالطلب عليه مرتفع دائماً، ومع إبقاء البنك المركزي الأوروبي على أسعار الفائدة السالبة واستمرار الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة، يدفع ذلك إلى جذب الأموال والاستثمارات إلى الأسواق الأمريكية، ويصحب ذلك ارتفاع الواردات وعجز الميزان التجاري، وهنا لا يكون العجز التجاري أمراً سيئاً.
السياسات المالية الأمريكية:
سياسات ترامب الضريبية التي صدرت في عام 2017 ودخلت حيز التنفيذ في عام 2018 أدت إلى ارتفاع الدخل المتاح للإنفاق لدى الأفراد والشركات، وأدى هذا الأمر إلى ارتفاع الطلب الأمريكي على الواردات، في حين أسهم التباطؤ في اقتصادات الشركاء التجاريين الرئيسيين للولايات المتحدة في عدم زيادة طلبهم على الواردات الأمريكية بنفس النسبة. كما أن ارتفاع عجز الموازنة الأمريكية وتمويل هذا العجز من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية أدى بدوره أيضاً إلى زيادة الطلب على الواردات من خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
جدوى السياسات التجارية
يختلف المحللون في تقييم جدوى السياسات التجارية الأمريكية؛ حيث يصر مسؤولو الإدارة الأمريكية على أن جهودهم لضبط السياسة التجارية - بما في ذلك المفاوضات مع الصين - ستؤتي ثمارها في السنوات المقبلة، وستؤدي في النهاية إلى تحسن الميزان التجاري. كما أشاروا إلى نمو الوظائف المتاحة في قطاع الصناعات التحويلية منذ تولي الرئيس ترامب يعد مؤشراً على نجاح سياساته. إلا أن إغلاق منشأة إنتاج كبيرة تابعة لشركة جنرال موتورز في لوردستاون بشمال شرق أوهايو يقلل نجاح هذه السياسات الاقتصادية. ويرى بعض الاقتصاديين أن دراسة حجم التجارة الثنائية السلعية بين دولتين لا يعد معياراً كافياً لتقييم العلاقات الاقتصادية بينهم، فعلى سبيل المثال توظف الشركات اليابانية الموجودة داخل الولايات المتحدة الأمريكية نحو 860 ألف شخص بشكل مباشر يتقاضون أجوراً سنوية بقيمة 72 مليار دولار أمريكي. في الوقت نفسه، توظف الشركات الأمريكية العاملة في اليابان حوالي 380 ألف شخص يتقاضون أجوراً سنوية قيمتها حوالي 26 مليار دولار أمريكي. لذا فإن الشركات اليابانية توفر نحو 480 ألف وظيفة إضافية للأمريكيين وتدفع لهم نحو 46 مليار دولار أمريكي أجوراً سنوية إضافية مقارنة بالشركات الأمريكية في اليابان. ولذلك فإن عجز الميزان التجاري السلعي بقيمة 67.4 مليار دولار أمريكي لصالح اليابان لا يعكس وحدة العلاقات الاقتصادية الثنائية بين الدولتين.
ويعتقد البعض أن السبب الرئيسي وراء فرض ترامب رسوم جمركية مرتفعة على المنتجات الصينية وتخفيض الضرائب على ممارسة الأعمال التجارية في الصين هو مواجهة خطة بكين "صنع في الصين 2025" للسيطرة على التكنولوجيا فاقة التقدم في الأسواق العالمية وليس تقليص عجز الميزان التجاري. ووفقاً لبعض المحللين فإن استراتيجية الصين تتمثل في تقديم إعانات حكومية كبيرة للشركات المملوكة للدولة واستكمال أبحاثها بالتكنولوجيا المسروقة من الشركات الأمريكية وغيرها من الشركات الغربية ومنع الشركات الأجنبية من ممارسة الأعمال التجارية في الصين ما لم تكن تشاركها التكنولوجيا مع الشركات الصينية. ومن ثم تسعى الحكومة الأمريكية لمواجهة ما تسميه بسرقة التكنولوجيا. ولذا يطالب البعض الإدارة الأمريكية بفرض رسوم تعريفة كبيرة وعقوبات اقتصادية أخرى لإجبار الصين إنهاء محاولتها للسيطرة على الأسواق العالمية، من خلال الدعم وسرقة التكنولوجيا من الشركات الأمريكية. كما تدرس الإدارة الأمريكية قواعد ولوائح لمراقبة التكنولوجيات الفائقة مثل الذكاء الاصطناعي والربوتات وغيرها وإخضاعها لضوابط تصدير؛ حيث إنها تكنولوجيات مزدوجة يمكن استخدامها لأغراض عسكرية.
في حقيقة الأمر فإن عجز الميزان التجاري يعكس دلالات تختلف من حالة لأخرى، فإذا كان العجز التجاري يمثل اقتراضاً لتمويل الاستهلاك الحالي بدلاً من الاستثمار طويل الأجل أو نتيجة للضغوط التضخمية أو يسبب تراجع فرص العمل المتاحة في الولايات المتحدة سيكون العجز في هذه الحالة أمراً سيئاً. وفي حالة تشجيع العجز التجاري الاقتراض لتمويل استثمار طويل الأجل أو يعكس ارتفاع دخول المواطنين والثقة في الاقتصاد والاستثمار، ولا يقلل فرص العمل المتاحة ويصاحبه انخفاض في معدلات البطالة يكون العجز التجاري انعكاساً لسياسات الاقتصاد الكلي ولا ينطوي على دلالات سيئة.