اعتقدت الغالبية العظمى أن أدوات الصراع قد استُنْفدت بين الناتو، وعلى رأسه الولايات المتحدة، وأوكرانيا واجهته، وبين روسيا وحلفائها.
كما اعتقدوا أنه لم يبقَ إلا الترسانات النووية لدى الخصمين.
المفاجأة كانت دخولَ سلاح جديد إلى ساحات الحرب لم يكن في الحسبان.. إنه تفجير الممرات الاقتصادية، عندما أُعلن عن استهداف خطوط الغاز الروسي "نورد ستريم 1 و2" في أعماق بحر البلطيق الناقلة للغاز الروسي إلى أوروبا عموما، وإلى ألمانيا بشكل رئيسي.
القاسم المشترك الأوحد للحادثة بعد وقوعها هو اتهام كل طرف الآخر بالوقوف وراء عملية التفجير.
قد يكون مفهوما اتهام موسكو الغرب وواشنطن، لكن المسألة بحاجة إلى تأمل طويل حين تُتهم موسكو بتفجير الأنابيب.
لم يقدم أي طرف أدلة أو براهين على اتهام الطرف الآخر.. ففي أي سياق يمكن وضع استهداف خطوط الغاز الروسية في بحر البلطيق التي تمد أوروبا وألمانيا؟ هل تندرج ضمن أدوات الصراع الاقتصادي بموازاة الصراع العسكري الميداني والسياسي المتصاعد بين الناتو وبين روسيا؟ هل اختيار زمن تفجيرها مرتبط بدخول أوروبا في فصل شتائها القاسي والطويل، أم أن حسابات الميدان بعد قرار ضم روسيا الأقاليم الأربعة شرق أوكرانيا عجّلت الدفع نحو إدخال هذا السلاح إلى ساحة الصراع؟ مَن المستفيد الحقيقي من العملية روسيا أم دول الناتو؟ ومَن المتضرر منهما؟
الاتهام الأطلسي لروسيا يرتكز على فرضية ليست جديدة في مفردات خطاب الصراع بينهما، مفادها أن موسكو تستخدم الطاقة سلاحا سياسيا وعسكريا في حربها ومواجهتها معه.. أما الاتهام الروسي لدول الناتو، ولواشنطن تحديدا، بالوقوف وراء عملية تفجير خطوط الغاز، وصل إلى حدود قول الكرملين إن التفجيرات وقعت في "مناطق تسيطر عليها المخابرات الأمريكية".
اتهامات موسكو مبعثها اعتقادهم بأن الولايات المتحدة تسعى لتحقيق غايتين من وراء ذلك:
الأولى اقتصادية الطابع من خلال إيقاع أكبر الضرر بالاقتصاد الروسي وحرمانه من أعظم عوائده، خاصة في الفترة الراهنة وعبر الصراع القائم في أوكرانيا.
أما الغاية الأمريكية الثانية فطابعها سياسي صرف يتعلق بزرع الفتنة بين موسكو وجارتها أوروبا وضرب عوامل الثقة، أو ما تبقى منها، بينهما من ناحية، ومن ناحية أخرى إبقاء القارة الأوروبية خاضعة للسياسة الأمريكية واستراتيجياتها في الصراع مع روسيا عبر ممارسة مزيد من الضغوط على صانعي القرار الأوروبيين، وتعميق احتياجات مجتمعاتهم ومؤسساتهم ومرافقهم الحيوية، التي ظلت عقودا من الزمن تتلقى حقن الغاز الروسي، ولم تسعَ لبدائل عنها، إلى أن وجدت نفسها في خضم صراع تدور رحاه على جزء من أرضها ويستنزف قسما كبيرا من طاقاتها ومقدراتها، ويطيح برفاه مواطنيها، ويضعها على أعتاب مستقبل غامض الملامح، وكلها باتت تشكل عوامل ضغط تثقل كاهل القارة ومواطنيها.
أيا كانت المواقف ونقيضها، فالأرجح أن موسكو في غنى عن تبذير مليارات الدولارات من عوائد غازها بتفجير أهم شرايينها الاقتصادية وهي تمر بهذه الظروف المعقدة والصعوبات الاقتصادية جراء العقوبات الغربية عليها، ذلك أنه يمكنها إيقاف ضخ الغاز دون أن تخسر جزءًا من بنيتها التحتية في هذا القطاع.. بصرف النظر عن الدوافع، فإن استهداف خط أنابيب "نورد ستريم 1"، الذي يمتد 1200 كيلومتر تحت بحر البلطيق من الساحل الروسي قرب سانت بطرسبرج إلى شمال شرق ألمانيا، ويمكنه إرسال 170 مليون متر مكعب من الغاز يوميا كحد أقصى من روسيا إلى ألمانيا، يحمل اثنين من الدلالات:
أولها دخول أدوات وأساليب إضافية على مجريات النزاع الروسي-الأوكراني.
وثاني الدلالات معنيةٌ بها أوروبا بشكل خاص، وتتفرع في اتجاهين، أحدهما تعميق أزمة الطاقة فيها وهي على أبواب الشتاء، والاتجاه الآخر دفْعُ الأوروبيين نحو تخوم النزاع بشكل أكبر.
ألمانيا وغالبية دول الاتحاد الأوروبي هي الأكثر تضررًا من توقف إمدادات الغاز الروسي، بالنظر إلى ما آلت إليه أسعار الغاز فيها حاليا، حيث ارتفعت 450 في المئة، مقارنة بما كانت عليه في مثل هذا الوقت من العام الماضي. ببساطة حياة الأوروبيين ستصبح أكثر صعوبة.
علاوة على الجدل السياسي، الذي أحاط بتسرب الغاز في بحر البلطيق، فإن جدلا موازيا تفجَّر حول احتمالات الضرر البيئي والمُناخي الناجم عن تسرب الغاز، علماء البيئة مختلفون حول مخزونات خطوط "نورد ستريم 1 و2"، إذ يعتقدون أنها تحتوي على ما بين 300 و500 مليون متر مكعب من الميثان، وهو ما يعادل قوة احترار 17 مليون طن إلى 25 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون على مدى 20 عاما، لكنهم متفقون على أن التفجير ينذر بحدوث "كارثة بيئية" قد يكون تأثيرها في المُناخ غير مسبوق.
أحد المؤشرات التي حملتها عملية استهداف أنابيب الغاز تنبئ بأن التحول في أساليب النزاع الروسي-الأوكراني يطرح احتمالات قد لا تكون في حسبان أحد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة