هل تنتزع دول آسيا دفة قيادة الاقتصاد العالمي؟
مكنت القوة الاقتصادية المتزايدة البلدان الآسيوية، خاصة الصين والهند، من توسيع نفوذها مما أدى إلى انتقال السلطة من الغرب إلى الشرق
أخذ الحديث عن قيادة آسيا للاقتصاد العالمي وما يمكن أن يترتب عليه منحى مختلفاً في السنوات الأخيرة، كان النقاش حول ذلك بدأ خافتاً منذ نحو 1990، وهناك مفكر عربي بارز هو الدكتور أنور عبدالملك ( رحل منتصف 2012)، كان أسبق من الجميع في التنبيه إلى هذا التحول بداية من كتابه "ريح الشرق"، الذي صدر منذ نحو نصف قرن، ثم كتاباته اللاحقة إن ما كان احتمالا أصبح أقرب إلى الواقع، مع التنبيه إلى أن قيادة آسيا لا تعني فقط تفوق الصين اقتصاديا على الولايات المتحدة، وحيث التفوق الأخير حصل بمقياس تعادل القوة الشرائية كما نعرف، وسيحصل بالمقاييس العادية في غضون 7 سنوات من الآن كما يتوقع.
ما يشغل العالم الآن، وما سينشغل به هذا التحليل، هو استكشاف محركات التغيير، وبواكير أثر التحول على الأرض، والبحث عن نتيجته على ما تعارفنا على تسميته بـ"المركزية الأوروبية" التي قادت التغير التكنولوجي والاقتصادي والقانوني، بل الثقافي في العالم خلال القرون الأخيرة، وكذا أثره على النظام التعددي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى التجارة والاستثمار ونقل التكنولوجيا والمنافسة في العالم كله، وأخيرا انعكاسه على السلم الدولي والازدهار الاقتصادي خاصة في منطقتنا.
في 2010 قال "أنوب سينغ" رئيس صندوق النقد الدولي في آسيا إنه بحلول عام 2030 سيكون اقتصاد آسيا أكبر من اقتصاد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما أن حصة المنطقة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ستزداد من نحو 30% إلى أكثر من 40%.
وأضاف "بعد 20 عاماً من الآن سيكون اقتصاد آسيا ككل أكبر من اقتصاد مجموعة الدول الصناعية السبعة، وسيكون نصف حجم مجموعة العشرين" واختتم "هذه هي اتجاهات لا تصدق". هذا تنبؤ ليس بعيدا لكنه يوضح انعطاف الحديث عن القيادة الآسيوية إلى ساحة أوضح منذ أزمة 2008 بشكل خاص.
- الصين.. العملاق القادم
ولا يمر يوم حاليا إلا وتتحدث بيوت البحث الاقتصادي عن مخاطر تباطؤ الاقتصاد الصيني، بما في ذلك صندوق النقد الدولي، سواء للتقليل من شأن استمرار الصعود الصيني، أو التنبيه إلى قوة الأثر الذي يمكن أن يترتب على زيادة أو هبوط النمو الصيني. (إذا عطست الصين...)
قام عدد لا يحصى من المراكز البحثية العالمية بترتيب القوى الاقتصادية المتوقعة في 2050، ومنها ذلك الترتيب الذي وضعته شركة «pwc»، ويوضح أن الصين ستحتل المرتبة الأولى بحجم اقتصادي 58,499 تريليون دولار، بدلا من الولايات المتحدة التي تتراجع إلى المرتبة الثالثة بـ34,102 تريليون دولار، وتأتي الهند في المرتبة الثانية بـ44,128 تريليون دولار، وإندونيسيا في المرتبة الرابعة بـ10,502 تريليون دولار، ثم البرازيل في المرتبة الخامسة بـ7,54 تريليون دولار، أما الاقتصاد الروسي يتوقع أن يحتل المرتبة السادسة بحجم 7,131 تريليون دولار.
وفي كتاب "صعود آسيا: الآثار والتحديات" (يوليو 2016) نقرأ كيف لم تصبح آسيا أكبر منتج في العالم فحسب، بل أصبحت أكبر سوق أيضاً، علاوة على ذلك تأتي 7 من البلدان العشرة الأوائل من حيث الاحتياطي الأجنبي من آسيا، كما أصبحت القارة مصدراً صافياً لرأس المال وأيضاً أكبر متلق للاستثمار الأجنبي. وقد مكنت القوة الاقتصادية المتزايدة بسرعة وبراعة البلدان الآسيوية، خاصة الصين والهند، من توسيع نفوذها بسرعة في الشؤون العالمية، مما أدى إلى انتقال السلطة من الغرب إلى الشرق، وأدت الأزمة الاقتصادية في السنوات الأخيرة إلى تسريع هذه العملية.
ووفقا لموقع "إل كي واي إس بي بي" فإن هذا التحول في السلطة أثار مخاوف وقلقاً، ويرى البعض أن ذلك يشكل تحدياً خطيراً، وأن الصين الصاعدة بسرعة ستؤدي إلى صدام مع الولايات المتحدة المهيمنة، مما يؤدي إلى حرب عالمية قد تشمل القتال في آسيا والمحيط الهادئ. ويرى آخرون أن صعود آسيا في مواجهة تدهور الغرب لا يقاوم. وذهب طرف ثالث إلى أن صعود آسيا أسطورة: (فبالإضافة إلى الاختلافات الجوهرية بين الدول الآسيوية من حيث التقاليد العرقية والدينية، والتنمية الاقتصادية، والنظام السياسي، والتحالفات الجيوسياسية فإن معظم الدول الآسيوية محاصرة بمشكلات ملحة مثل الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والصراعات العرقية والدينية والفساد المستشري والفقر وانعدام الأمن في الطاقة وتدهور النظام البيئي).
باتجاه آخر، هناك من يرى أن المواجهة الأمريكية مع الصين ليست حتمية، وأنه خلافا للقوى المهيمنة السابقة التي اعتمدت على قوتها العسكرية أدرجت الصين نفسها في هذا النظام، على الرغم من أنه قائم على نقيض أساسها الأيديولوجي، أي على اقتصاد السوق الرأسمالي.
وكما يقول أحدهم إن إحدى أهم نتائج "الصعود السلمي" للصين هي الترابط غير القابل للنقض بين أمريكا والصين. ويضيف: إن وجهة نظر "صعود آسيا تجاه انخفاض الغرب" تتجاهل حقيقة أنه بتبني القيم والممارسات الغربية حققت آسيا تنمية سريعة.. الرأسمالية واقتصاد السوق، بل أصبحت الديمقراطية التيار السائد عموما هناك.
وناقش كثيرون دورس البريكست البريطاني، فقالوا إن آسيا تبدأ من موقف مختلف، فهي كمنطقة هي أكثر تكاملاً مما يعتقده الكثيرون، في عام 2017 بلغت التجارة الآسيوية البينية 58%، وفقاً لبنك التنمية الآسيوي، أي أنها تسبق أمريكا الشمالية، وليست بعيدة عن أوروبا 64%، مع التنبيه إلى أن منطقة جنوب ووسط آسيا أقل ترابطاً من الشرق المزدهر بسبب القيود، ويخلصون إلى أنه وكما تبين الحرب التجارية فإن الدول الآسيوية المصدرة النابضة بالحياة غالباً ما تكون أكثر ارتباطاً بالدول البعيدة في الغرب أكثر مما ترتبط ببعضها البعض.
سوف يكون الدافع وراء التكامل المستقبلي في آسيا هو الاستثمار في البنية التحتية الصينية، أو تلك التي ستتم في مشروع الحزام والطريق، والمعلوم أن 9 دول عربية تشارك به، كما أن 7 دول عربية هي من المؤسسين في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.
وإلى كتابات منتدى ديفوس، حيث يقترح "دين لي داوكوي" من جامعة "تسينغهوا" في بكين أن البعض اعتبروا أن صفقة الشراكة عبر المحيط الهادئ هي طريقة لتمكين أمريكا من تجاوز الصين، وبما أن الصين هي أكبر اقتصاد في آسيا فإنه لا يمكن أن يكون لديك اتفاقية تجارية مع آسيا بدونها، وعلى الموقع ذاته قال معلقا "دونالد ترامب يطلق النار على أمريكا في القدم بالتخلي عن شراكة المحيط الهادئ".
وفي بعد آخر يقول "أنتوني فرنانديز" الرئيس التنفيذي لشركة "آيرأسيا": هناك اتفاق على أنه لمنح آسيا فرصة للنجاح يجب تمكينها من قيادة المنظمات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي".
وذكر الشريك الإداري في "فيوتشر ماب" عند إطلاق كتابه الجديد "المستقبل آسيوي" أن على العلماء الغربيين أن يقدّروا أن القرن الواحد والعشرين ليس مجرد تكرار للتنافس الأمريكي مع الاتحاد السوفيتي، وينوه إلى أهمية رؤية آسيا كما يراها الآسيويون، ويشدد على أن "آسيا هي أكثر من كتلة إسفنج تمتص معارف غيرها الغربي"، فهناك قدرة الآسيويين على التعلم من ثقافات بعضهم البعض.
ويطلق تعبيرا لافتا هو التحول الراهن عن "توازن القوى إلى توازن الابتكار" (أزمة هواواي)، لكنه لفت إلى أنه إذا كانت الهند والصين وإندونيسيا تشكل نحو 3 مليارات نسمة فإنه بوسع الولايات المتحدة الأمريكية أن توظف مهارات 7 مليارات، هم سكان الأرض لصالحها بجاذبيتها العلمية والبحثية والفكرية والاجتماعية، وكلامه ممكن بالطبع، ولكن يلزمه الحفاظ على جاذبية الحلم الأمريكي!
وفي تقرير التنافسية العالمي لعام 2019 احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى في العالم في 3 من ركائزنا الاثني عشر، ديناميكية الأعمال وأسواق العمل والنظام المالي، وتأتي في المرتبة الثانية في اثنين آخرين، الابتكار (خلف ألمانيا) وحجم السوق (خلف الصين). وسواء كان المنتدى العالمي يريد الرد على من يقللون من شأن الولايات المتحدة بعد صعود آسيا أم إقرار حقائق مجردة، فإنه لا أحد ممن يتابعون القصة يقول إن الولايات المتحدة ستنحدر فجأة، وكل ما في الأمر وكما قال بول كينيي منذ 20 عاما "ستصبح أمريكا بلدا بالحجم الطبيعي أي بحجم جغرافيته وسكانه واقتصاده وعلمه، وبعبارة أخرى قوته بدون العضلات العسكرية وورق الدولار المطبوع".
- القوى الناعمة لاقتصاديات آسيا
وبشأن القوة الناعمة يمكن الإشارة إلى ما ورد على مدونة "إيكونو آسيا بلوج" والقائلة إن العديد من الاقتصادات الآسيوية تقود العالم في مجالات مثل الرياضيات والعلوم.. وحول تأثير الذكاء الاصطناعي والروبوتات على الوظائف، فإن هذا يجعل العمال في الاقتصادات الآسيوية مثل سنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية أقل عرضة للضرر مع التشغيل الآلي وأكثر قدرة على العمل مع الآلات لزيادة إنتاجيتهم، وقد شهد العقد الحالي ظهور عدد ضخم من الكتابات يتحدث عن الهند بوصفها القوة الصاعدة بعد الصين وقد تسبقها، ويقال ذلك عادة إما للتقليل من شأن استدامة القوة الصينية أو التنبيه إلى أن آسيا ليست الصين فقط.
كما تتمتع الصين والهند بمكانة جيدة لقيادة الابتكار الرقمي وفي حال الصين يمكن أن يسهم بنحو 26% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 14% من الناتج المحلي الإجمالي، وتمتلك الهند أيضاً تقليداً طويلاً في إنتاج مبرمجين وتقنيي الكمبيوتر على مستوى عالمي يمكنهم البناء عليه.
يعبر ما سبق عن الموقف بشكل كاف، حيث لا يمكن تتبع كل المؤشرات العالمية وموقف آسيا ودولها والغرب ودوله منها، وتلخص كتابات عديدة ما يمكن أن يقوم به العالم العربي في المرحلة الانتقالية التي نمر بها، بينما نظام يتراجع وآخر يصعد وبينهما مشتركات، فهما ليسا نقيضين بالكامل كما رأينا، وتشير إلى أن التبادل التجاري بين الصين والعالم العربي دخل منطقة المائتي مليار دولار خلال 2018، وتستقر الكتلة الأكبر منه بين الصين ودول الخليج بنصيب 67%، كما أن هناك منتدى عربيا صينيا، ومحافل عديدة للتعاون الثنائي ومراكز ثقافية وتعليم الصينية ومبعوثين، وصناديق سيادية، وملايين السائحين الآسيويين وغيرها. وأهم ما يوصى به هو تخطيط الانفتاح العربي الثاني على آسيا، ووضعه في إطار مدروس، والمرونة في السياسات لعبور التحول بأقل خسائر ولا نقول بأكبر مكاسب، وتفادي الاستقطابات والضغوط التي تتولد عن ممارسات قوى تتراجع وترغب كالعادة في التمسك بمواقعها، وتعميق التكامل البيني العربي لدعم المركز التفاوضي مع العملاق الآسيوي، وعدم الانخراط في المعارك التي ستندلع لا محالة في الأفنية الخلفية للصين -مثل أمريكا اللاتينية- مع الحرص على المناداة بالاستناد إلى القانون الدولي، وتجنب إعادة الانخراط في خطيئة التوظيف الأيديولوجي للدين، حيث يرى كثيرون أن الولايات المتحدة وقوى غربية ستعيد استخدام السلاح ذاته في المواجهات مع قوى آسيا الكبرى. وأخيرا ترقية نظم التعليم والابتكار، والبناء الهادئ للممارسات الديمقراطية استفادة من توافر مناخ مختلف بشأن هذا الملف وخال من الابتزاز.
aXA6IDMuMTM1LjIyOC4xNSA= جزيرة ام اند امز