جزء من تركيز إسرائيل علي مصر قبل حرب أكتوبر يشير إلى حرصها على الدخول في مواجهات حقيقية لا علاقة لها بتحسن العلاقات بين البلدين.
تواصل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية مخطط استدراج الأجهزة الاستخباراتية العربية عامة والمصرية على وجه الخصوص الدخول في لعبة التصويب والتكذيب وجس النبض ونقل المواجهة من إسرائيل للرأي العام العربي بعد سنوات من الصمت، والذي كان مرتبطا بالفلسفة الحاكمة لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في الماضي، والتي اعتمدت على استراتيجية الصمت والتكتم إلى الخروج إلى العلن، والبدء في مواجهة جديدة مع العمل على نشر الروايات الأخرى من مصدرها الإسرائيلي.
ستدخل إسرائيل في حال من المناكفة مع مصر خاصة مع قرب حلول أكتوبر، وما يمثله "يوم كيبور" في إسرائيل من ذكريات حزينة دفعت إلى مراجعة كاملة لما جرى من تقصير في أجهزة المعلومات على مختلف درجاتها، وهو ما سيدفعها اليوم للقفز على الفشل إلى تبني استراتيجية هجوميةأولا: تعتمد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد/أمان) في الوقت الراهن على تبني استراتيجية حرث الأرض والدفاع من أعلى، خاصة أن رئيس الموساد تحديدا واحد من أهم صناع القرار في إسرائيل، ليس لأنه صديق مقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو فقط، وإنما لأنه واحد من أمهر ضباط الموساد، وهو خبير متخصص في مكافحة التنظيمات الإرهابية، وله حضور فكري وإيديولوجي في قطاعات الموساد كافة، وعمل في مجال الحرب النفسية واختراق الجدران الصامتة، في إشارة لحنكته في توظيف المهارات الشخصية وتفهم سيكولوجيات الشعوب، ومن ثم فإننا أمام رئيس جهاز مهني، كما أن رئيس الاستخبارات العسكرية تمير هايمن هو الآخر شخصية كبيرة في المؤسسة الأمنية، وصاحب رؤية استراتيجية هائلة مكنته من تصفية المنافسين له داخل الجهاز العتيد وإبعادهم عن موقع القيادة.
والواضح أن خلفية الرجلين هي من تتحكم في الوقت الراهن في نقل المعارك الجانبية بين الجهازين على المهام والمسؤوليات، وهو الذي يدفع للصراع وليس فقط المنافسة على تمجيد كل جهاز لعملياته السابقة والراهنة، ومن ثم فإن المواجهة القادمة هي من ستحكم إطار التعامل مع العالم العربي في إطار لعبة أجهزة الاستخبارات الدولية والإسرائيلية على وجه الخصوص، ومن ثم فإن ما خرج في إطار المواجهة الاستخباراتية مع مصر قد يمتد إلى دول أخرى، ومن ثم فإن التوقع بفتح الملفات السابقة ومحاولة تشويه بعض الحقائق سيكون على رأس الأولويات في الفترة المقبلة للجهازين معا.
ثانيا: لوحظ أن جهاز الموساد بدأ في إعداد خطة إعلام موجه، بدأت ببث أخبار عديدة عن نشاطاته عبر مصادر صحفية وإعلامية عبرية بالأساس، وقامت المصادر العربية بتدويرها إعلاميا، وهو أمر يجب التعامل معه بحذر، ومن خلال تحري المصادر البديلة عبر وسائل الإعلام المختلفة، حيث تعمد جهاز الموساد في بث معلومات مضللة على نشاطه ومحطاته الحية في الدول العربية، خاصة أن أذرعه كبيرة وممتدة، وهو أمر يجب أن يراجع في ظل تأكيدات مجلة الاستخبارات الدولية -مجلة متخصصة في شئون المخابرات- أن هذا الجهاز يعاني من أزمة هيكلية حقيقية متعلقة بتصعيد جهاز الاستخبارات العسكرية "أمان" في مقابل دوره التقليدي والتاريخي، وأن حركة تغييرات حقيقية تمت في الفترة الماضية ودفعت برئيس الوزراء نتنياهو باستحضار صديقه يوسي كوهين لرئاسة الجهاز، والبدء في تغيير أسس وقواعد الجهاز الشهير من أسفل، وإيجاد دور مختلف عن الفترة الماضية، وهو ما سيدفع بمواجهات ستطول عديدا من المؤسسات والأجهزة التابعة، إضافة للحضور الكبير للجهاز في دول عديدة في المنطقة العربية وفي الخارج، ومن ثم فإن استهداف الرأي العام العربي تحديدا على رأس الأولويات مع الدخول في مناطق جديدة للاستهداف عبر نشر كتب ودراسات وبحوث تبدو في صياغتها، وأعدادها أنها تحمل رؤية وفكرا، ولكنها موجهة ولعل متابعة عدد من مراكز البحوث الإسرائيلية، ومنها مركزا السادات بيجين وهرتسيليا نتوقف عند هذه النقطة، حيث تكثر الدراسات وورش العمل حول الوضع العربي وبصورة لافتة؛ حيث عدم الاستقرار في الإقليم بأكمله.
فمن حديث عن الأوضاع في السعودية داخليا، ووفق التحديث الجاري في الدولة وفقا لرؤية الأمير محمد بن سلمان إلى الحديث عن مصر من حال الاضطراب إلى حال الاستقرار، ومثالا على هذا يرتب مركز الأمن القومي -واحد من أهم مراكز البحوث الاستراتيجية في إسرائيل- ندوة مغلقة بمناسبة حرب يوم الغفران عن مصر الداخل، وسيطرح التساؤل "مصر إلى أين؟"، ويتناول خلاله التحديات الداخلية السياسية والاقتصادية والأمنية ووضعها الإقليمي وعلاقات السلام بينها وبين إسرائيل.
ويحمل اليوم النقاشي عنوان "مصر من الاضطراب إلى الاستقرار"، ويحاضر فيه عدد من الشخصيات الأكاديمية والعسكرية والدبلوماسية منهم الدكتور أفرايم كم من معهد دراسات الأمن القومي، واللواء احتياط عاموس جلعاد رئيس معهد السياسات والاستراتيجية، والبروفيسور شمعون شامير من جامعة تل أبيب، ويتسحاك جال من مركز دايان للدراسات، والدكتور يجيل هنكن من معهد القدس للدراسات الاستراتيجية، والسفير الإسرائيلي السابق لدى مصر حاييم كورن، والسفير الإسرائيلي الحالي لدى القاهرة دافيد جوفرين.
ثالثا: ما سبق جزء من تركيز إسرائيل على مصر قبل حرب أكتوبر، يشير إلى حرص إسرائيل على الدخول في مواجهات سياسية واعلامية حقيقية لا علاقة لها بتحسن العلاقات بين مصر وإسرائيل ولقاء الرئيس السيسي ورئيس وزراء إسرائيل نتنياهو في هذا التوقيت، خاصة أن مصر التزمت بمعاهدة السلام طوال السنوات الأخيرة، وفي إطار تواصل اللقاءات الدورية التي تجري بين البلدين بمقتضى نصوص المعاهدة، وإن كان هذا لا يعني أن مصر نجحت طوال عملياتها الاستراتيجية في سيناء في التحرك دون قيود استراتيجية للوصول إلى المنطقة (ج) وفقا لبنود المعاهدة، وهو ما دفع المعارضة الإسرائيلية في عديد من المواقف السابقة للتأكيد على أن مصر اخترقت المعاهدة نصا ومضمونا، وأن رئيس الوزراء نتنياهو استحضر الجيش المصري على طول الحدود مع إسرائيل، ومن ثم فإن مخاوف اليوم التالي من معاهدة السلام مع مصر ما يدفعها للاستمرار في الاستعداد للمواجهة العسكرية والاستراتيجية ليس على جبهة واحدة، وإنما على جبهات متعددة في التوقيت نفسه، ولعل هذا ما يشير إلى حال القلق من تسلح الجيش المصري واستمرار تنمية قدراته في مجالات متعددة، ويدفع بقوة لإعادة ترتيب الأولويات والحسابات الاستراتيجية.
رابعا: ستدخل إسرائيل في حال من المناكفة مع مصر، خاصة مع قرب حلول أكتوبر وما يمثله "يوم كيبور" في إسرائيل من ذكريات حزينة دفعت إلى مراجعة كاملة لما جرى من تقصير في أجهزة المعلومات على مختلف درجاتها، وهو ما سيدفعها اليوم للقفز على الفشل إلى تبني استراتيجية هجومية على ما جرى في هذه الذكرى بنشر عديد من الوثائق التي ظلت حبيسة الأدراج لسنوات طويلة، وبعض ما حجبته الرقابة العسكرية والبعض الآخر تكفلت المحكمة الإسرائيلية العليا برفض النشر، ومن المتوقع أن تبدأ إسرائيل في نشر وقائع لملفات التجسس والتجنيد على الجانب الآخر بما في ذلك ملف عزام عزام ورفعت الجمال، لتؤكد روايتها الفاشلة في اختراق الجانب المصري، وأن قصة تمجيد الأجهزة العربية انتهى ليبدأ عصر الموساد الذي سيبدأ في سرد تاريخه الحافل بهدف رفع الحالة المعنوية لمجتمع يعاني من حال الانكسار وافتقاد القيادات الكبيرة القادرة على الحسم، ومعاناة المجتمع الإسرائيلي من مشاكل الهوية والانتماء، حيث ستفشل كل الخطط التي يعمل من ورائها اليمين الإسرائيلي لإقرار يهودية الدولة على الأرض بما في ذلك حسم مشروع قانون يهودية الدولة.
خامسا: إن تعاملنا مع إسرائيل كدول عربية لا يعني أن نقع في خطة الاستدراج التي تسعى إليها إسرائيل؛ من نشر وثيقة مقابل وثيقة وعملية مقابل عملية، وإنما الأمر في حاجة إلى مراجعات ويتعلق بالتعامل الحذر مع ما ينشر إسرائيليا، وفي إطار خطط إسرائيل لتجنيد الشباب العربي من خلال استراتيجية التجنيد الإلكتروني ومن خلال سواتر أمنية واستخباراتية عديدة، وهو ما يجري بالفعل في ظل مسعى استخباراتي لبناء منظومة معلوماتية إسرائيلية شارك فيها فرع المعلومات في الموساد والمكتب الخارجي في الاستخبارات العسكرية، إضافة لوحدات متخصصة في الشاباك، وفي إطار تكاملية مهام الأجهزة والمؤسسات الأمنية رغم صراعاتها، وتعتمد على بناء حزم استخباراتية من الشخصيات العربية في مجالات الإعلام والسياسة والأمن والاقتصاد، مع متابعة آلاف الصفحات الشخصية لبعض الشخصيات العامة للتعرف على أنماط التفكير واتجاهات الرأي العام خاصة المعارضة، وهو ما يشير إلى أن إسرائيل ما تزال تتابع وتراقب وترصد، وتحلل في إطار ما يجري إجرائيا وجوهريا على الأرض.
إن معركة إسرائيل الحقيقية هي امتلاك المعلومات عما يجري عربيا، سواء من خلال محاولة بناء التقييمات السياسية والاستراتيجية للتعامل عن قرب، وهو ما يشير إلى أن إسرائيل ستسعى إلى المواجهة الأخرى من وراء ستار أمني واستخباراتي، مع العمل على بناء منظومة الاستخبارات الجديدة التي تدشن مرحلة مغايرة تماما، وهو ما يفسر إطلاق إسرائيل مؤخرا قناة i24، وبما تحمل من دلالات إعلامية وسياسية، وصفت فيه نفسها بـالقبة الحديدية في وجه الصحافة العالمية، وأن هدفها الرئيسي تحسين صورة إسرائيل في العالم العربي وفي العالم بشكل عام، إذ ستبث بثلاث لغات، العربية والإنجليزية والفرنسية.
والرسالة المهمة والأخيرة أن إسرائيل تبدأ كتابة تاريخها الاستخباراتي من خلال منظور جديد.. فماذا نحن فاعلون؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة