نحن أمام فلسفة جديدة للموساد تتعلق بتغيير عقيدة المواجهة والإعلان والتأثير.
مع قرب عرض فيلم الملاك في منتصف سبتمبر الجاري، والذي سيعرض قضية أشرف مروان من منظور إسرائيلي، فإن ثمة تساؤلا يطرح حول حقيقة ما جرى في مرحلة معينة، وتتعلق بانعكاسات الملف في الوقت الراهن، وفي تقديري لفترة أخرى قد تطول بعض الوقت وقد تمس شخصيات ودولا، وتتعلق بالفترة التي تم تجنيد أشرف مروان، ودوره في بعض الأحداث التي اختصرها البعض في النظر بإبلاغه الجانب الإسرائيلي عن موعد حرب أكتوبر، على الرغم من أن هذا الدور تمدد وتشعب، وتمكنت مصر من خلاله من تحقيق إنجازات لم تروَ ولن تروى على الأقل في الوقت الراهن.
إن إنصاف رجل مثل أشرف مروان أدى دوره مثلما أدى عشرات الرجال غيره في مجال الخدمة السرية في عمليات لم تعلن أحداثها بعد، سيتطلب مراجعة ما يجري بالفعل على الجانب الآخر، والعمل على كشف ما تخطط له إسرائيل في بث بعض الأخبار المضللة والملونةالواقعة الأولى: توقيت الإعلان عن الفيلم من زاوية إسرائيلية يشير إلى ما يجري حاليا في الموساد والاستخبارات العسكرية من صراع على الأدوار والمهام والإنجازات التي جرت في مراحل معينة، وكان ملف أشرف مروان جزءا من تفاصيل عديدة لطبيعة الدور الذي كلف به وقتها، وما قام به من عمليات متتالية، والإعلان الآن عن الفيلم جزء من معركة راهنة ستستمر بعض الوقت إلى أن تحسم داخل مجمع الاستخبارات الإسرائيلي "موساد لي" بأكمله، والذي يضم جميع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية على مختلف درجاتها، وقد بدأ هذا الصراع مؤخرا في إطار فك بعض الشبكات وإعادة تحديد مهامها سواء في المنطقة وخارجها، وهو ما يجب التعامل معه بحذر عربيا ووضع التصورات الاستباقية المباشرة للرد على ما سيساق إسرائيليا في عمليات تجنيد لبعض الشخصيات التي لم تعلن أسماؤها بعد في عمليات كنترول "سيطرة" سابقة.
الواقعة الثانية: نعم نحن أمام فلسفة جديدة للموساد تتعلق بتغيير عقيدة المواجهة والإعلان والتأثير، خاصة أن هذا الجهاز عاش سنوات طويلة دون الإعلان عن عملياته نجاحا وفشلا، بما في ذلك سقوط شبكات مقابلة على الجانب العربي، في حين أعلنت الدول العربية تباعا عن سقوط شبكات تجسس إسرائيل، بل تناولت ذلك في أفلام ومسلسلات عديدة في إطار تمجيد دور أجهزة الاستخبارات العربية وصنع البطولات، وظل الموساد محافظا على سرية ما يجري، ولم يقترب تحت أي مسمى من هذه الفلسفة في التكتم، وعدم الإعلان إلى حين صدر القرار داخل الموساد بالعمل على تغيير فلسفة العمل مؤخرا بناء على توصيات قيادات سابقة في مجمع الاستخبارات، والتي دعت إلى تغيير فلسفة العمل والعقيدة الاستراتيجية لمهام ضباط الموساد تحديدا وبدرجات ضباط العمليات والخدمات السرية في الاستخبارات العسكرية "أمان"، والبدء في مواجهة ما يعلن من خلال عرض إنجازات الأجهزة الأمنية المقابلة، ونشر بعض الحقائق.
وقد بدا ذلك بوضوح بعد إعلان إيران أنها نجحت في تجنيد وزير إسرائيلي سابق "غونين سيجيف"، واضطرت إسرائيل لمواجهة ما يجري بالإعلان عن مسئوليتها عن بعض الوقائع، وألقت القبض على الوزير الذي يحاكم الآن، والرسالة معناها أن الفلسفة الجديدة ستصب في توظيف بعض الأحداث سياسيا ومتابعة ما يجري من تغييرات حقيقية في المهام، والتي ستبدأ بإعادة فتح ملف عملية أشرف مروان وعمليات أخرى.
الواقعة الثالثة: ستبدأ إسرائيل تباعا في الإعلان عن عمليات أخرى لشخصيات كبيرة سواء في المنطقة أو خارجها، في إطار تجنيدها شخصيات كبيرة على المستوى العربي والدولي، وهو ما سيفتح الباب الموصَد على مصراعيه، وسيطول مسئولين كبارا في إدارات أمريكية وفي روسيا وفي فرنسا بل في دول عربية، وهو ما كانت تخشاه إسرائيل منذ سنوات في عدم العمل تحت ضغوطات مهنية أو إعلامية، ومع ذلك مضت فيه.
ومن ثم فإن إسرائيل ستدخل على خط الإعلام من الآن فصاعدا، وستبدأ في نشر بعض الروايات من واقع معلوماتها وعملياتها، خاصة أنها ستعتمد على بث الأكاذيب والموضوعات الملونة اعتمادا على ما سبق وطرح على الجانب الآخر.
الواقعة الرابعة: أن المؤلف الإسرائيلي الذي كتب كتاب الملاك يوري بار جزويف ليس كاتبا فقط روائيا، أو خبيرا في الصياغات الاستخباراتية فقط، بل هو منظر استخباراتي معروف، فالكتاب أجازته الرقابة، واعتبرته فيلما عاديا ليس أكثر، وليس فيه أسرار كاملة ستحكى، وإنما اعتمد الفيلم على السرد، والرواية في حد ذاتها لا تحمل سوى عرض من جانب إسرائيل فقط مثلما فعلت الأفلام العربية التي صورت بعض عمليات التشغيل لعملاء ومتعاونين على الجانب المقابل، ولكن هذا المؤلف يظل وحده الذي سمحت له إسرائيل بصياغة الحدث أو الخروج للرأي العام بفيلم الملاك اعتمادا على ما كتب بالفعل، على الرغم من أن الكتاب احتوى على سلسلة من الأخطاء المهنية والفكرية في مجال علم الاستخبارات اعتمادا على أنها ليست سوى رواية، ومع ذلك ظلت علامات الاستفهام على ما كتب وتم تمريره، خاصة أن إسرائيل تعكف في الوقت الراهن على تناول روايات أخرى ذات طابع خاص، ربما لاستعادة المواجهة والصدارة التي تم التكتم بشأنها لسنوات طويلة دون حسم.
الواقعة الخامسة: لماذا تكتمت إسرائيل على ما نشر وبصورة مباشرة في كتاب جهاد السادات، وهو الكتاب الذي لم يسمع عنه أحد في العالم العربي، وقامت الرقابة العسكرية بمنع تداول الكتاب وأحرقت نسخه، وتم التكتم عن تفاصيله ويتردد أن مؤلفه أجبر على الصمت وعدم الحديث في وسائل الإعلام واختفى لاحقا. والغريب أن هذا الكتاب تضمن تفاصيل مثيرة عن دور الرئيس الراحل أنور السادات في الدفع بأشرف مروان في قلب إسرائيل ورجال العمليات الخاصة والخدمة السرية من المصريين، ولم ينشر عن الكتاب شيء واكتفينا بما تردد في إسرائيل، والواقع أن هذا الكتاب هو الأهم في سلسلة ما كتب بالفعل في إسرائيل عن أشرف مروان، ويحسم كثيرا من الملفات العالقة حتى الآن، ويقر بتاريخ أشرف مروان ودوره الوطني.
الحقيقة السادسة: هناك مؤلف آخر أمريكي يعرف باسم هوارد بلوم صاحب كتاب عشية الدمار، والذي روى في فصل كامل عملية التجنيد التي قامت بها مصر والدور الكبير لأشرف مروان وخطط الخداع التي اتبعتها مصر في التعامل مع الملف بكل تفاصيله، وقد حمل الكتاب أسماء بعض الشخصيات العربية التي شاركت في دعم أشرف مروان بالمال، وهذا أيضا ملف مسكوت عليه في إطار الدور العربي لدول وشخصيات عربية كبيرة شاركت بصورة كبيرة في تفاصيل ما جرى، وبدعم مصري مباشر كان يتم على مراحل، وقد نجح أشرف مروان في نقل الرسائل والتعامل بصورة إيجابية، ومن ثم فإن ثمة دورا عربيا مطروحا بدرجات في عملية تشغيل مروان لعدة سنوات.
الواقعة السابعة: لم يحسم بعد الخلاف الحقيقي بين الموساد وأمان وسائر أجهزة الاستخبارات الأخرى في شأن عملية السيطرة والتجنيد لأشرف مروان، والتي دخل أطرافها وتفاصيلها رجال وقيادات بثقل زفي زامير وايلي زعيرا، وكلاهما من أساطين المخابرات الإسرائيلية، والذين نفوا ولاء وانتماء أشرف مروان للمجتمع الإسرائيلي أو لعالم التجسس، أو أن الموساد أو الاستخبارات العسكرية "أمان" نجحا في تجنيده بصورة مباشرة.
والسؤال لماذا طلب من رئيس المخابرات العسكرية "أمان" ايلي زعيرا الصمت، وعدم نشر مذكراته عن يوم كيبور، مما يؤكد أن خطة التجنيد كانت على الجانب الآخر، وأن مصر مارست أكبر خطة خداع تكتيكي في تاريخها الاستخباراتي، وهو ما اعترف به قادة الحرب في إسرائيل فيما عرف بيوم جهنم كاسم كودي لما جرى من انتصار المصريين في حرب يوم الغفران.
الواقعة الثامنة: جاءت في تحقيقات لجنة الجنرال أجرانت، والتي شكلتها إسرائيل بعد هزيمة يوم الغفران للبحث عن "المحدال" أي التقصير، ومن صاحب الرواية في المواجهة ولماذا لم تقدم المخابرات العسكرية "أمان" على تقديم خطة الرد على إبلاغ أشرف مروان بقرار الحرب من مصر وسوريا، والغريب أن تحقيقات اللجنة ونتائجها تمت ونشر بعضها في أجواء خاصة بأشرف مروان وبالتحرك المصري وقرار الرئيس السادات بشن الحرب، وهو القرار الذي لم يكن يعلمه سوى قليلين، والمؤكد أن التحقيقات وصلت إلى نتائج مذهلة بشأن ما جرى في خطط التجنيد والتأهيل، وقيام المخابرات المصرية بأكبر خطة تكتيك استراتيجي حقيقي لمواجهة إسرائيل أثناء وقبل قرار الحرب الذي لم يخطر به أحد، وهو ما خلصت إليه لجنة أجرانت التي تحتاج إلى مراجعة جديدة، ونشر ما جاء في خلاصة أعمالها.
الواقعة التاسعة: يمكنني هنا أن أعدد عشرات من الشهادات الموثقة حول أشرف مروان من مصادر محايدة، ومنها ما كتبه بيرجمان أهارون في كتابه تاريخ إسرائيل عن أشرف مروان ودوره في التعامل مع إسرائيل، وأن مروان كان في قلب دائرة الحدث وصنع القرار وهو ما يعطي لحضوره أهمية استراتيجية حقيقية، وأتذكر أن هذا المؤلف أهدى مروان نص ما كتبه، والذي وصفه ببطل مصر الكبير، كما أن كتّابا كبارا لهم أسماؤهم في عالم الاستخبارات مثل افرايم كاهانا وموشييه ماعوز وشلومو درعي وغيرهم طالبوا بالكشف عن ملابسات ما جرى رسميا، والبدء في تشكيل لجنة تحقيق كاملة لمعرفة ما الذي جرى في إسرائيل من وقائع بشأن ملف أشرف مروان، بل وصلت بعض الدعاوى إلى المحكمة العليا الإسرائيلية للبت فيما جرى بالفعل، خاصة لا أحد يجادل بأن هناك شخصيات أخرى كان لها دورها في إسرائيل للتشويش على ما جرى، والكشف عن ملابسات بعض الأسماء القريبة من أشرف مروان، والتي كان لها مهام محددة في عملية التجنيد والتعامل من منظور مصري بحت.
الواقعة العاشرة: مصريا يبقى أشرف مروان مواطنا مصريا منح وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، ووصل إلى أعلى مناصب الدولة المصرية في عهد الرئيس السادات، وبعيدا عن حديث الرئيس مبارك أنه كان وطنيا فإن عدم تشكيل لجنة تحقيق في ملف أشرف مروان (تجنيدا بداية ونهاية) ربما يجعل الأمور حول وفاته تحمل تكهنات عديدة ومستمرة حتى الآن في احتمالية الرد المصري بعمل توثيقي مشابه، وليس بمجرد الرد بفيلم عابر سبق للرقابة المصرية التحفظ عليه ويحمل اسمه عنوانا سطحيا تافها مقابل اسم الملاك للفيلم الإسرائيلي.
وفي كل الأحوال ستبقى علامات الاستفهام قائمة على الجانب الإسرائيلي بالأساس في إطار عدم إقدام إسرائيل على تكريمه أو منحه أعلى أوسمة الدولة أو إطلاق اسمه على منشأة عسكرية أو استراتيجية أو تأليه البطل أو معاملته معاملة معينة، مثلما تعاملت إسرائيل مع رجال خدموا إسرائيل أمنيا واستراتيجيا من جنسيات عديدة، ولماذا لم يرفع الستار بعد عن ملف أشرف مروان الذي تعرض لأكبر عملية تصفية نفسية وإعلامية من بعض كبار كتاب مصر نكاية في الرئيس عبدالناصر، وقربه أيضا من الرئيس السادات؟ ولا أحد يعلم أين ذهبت روايات أشرف مروان أو سيرة حياته، وما سجله من وقائع.
إن إنصاف رجل مثل أشرف مروان أدى دوره مثلما أدى عشرات الرجال غيره في مجال الخدمة السرية في عمليات لم تعلن أحداثها بعد سيتطلب مراجعة ما يجري بالفعل على الجانب الآخر، والعمل على كشف ما تخطط له إسرائيل في بث بعض الأخبار المضللة والملونة لإضفاء مزيد من الضبابية على ملف مروان وشخصيات أخرى متوقع أن تكشف عنها إسرائيل تباعا، في إطار ما يخطط له في مجمع الاستخبارات من ضرورة تمجيد دور الدولة العبرية، ودور رجالاتها الكبار في إطار حرب لم تعد خفية أو وراء ستار، وإنما أيضا أمام شاشات التلفزيون، وفي الميديا على مختلف درجاتها، ولتكن البداية بفيلم كجس نبض ليس أكثر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة