الدولة المصرية.. وتجديد الخطاب الديني
استند موقف الجيش والشعب في ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ إلى مبادئ أساسية في الوعي والسلوك، وهي تلك المبادئ التي وجهت حركة الثورة.
كان المشهد السياسي في مصر قبل 30 يونيو/حزيران 2013، مضطرباً ويختلط فيه الحابل بالنابل، وتطل الفتنة بكافة وجوهها من كل حدب وصوب، والعنف يشق مجراه في حياة المصريين، التي تميزت عبر العصور بالطابع السلمي، ويمثل العنف لحظة استثنائية وخارجة عن السياق، اكتشف المصريون بكافة فئاتهم أن الصفات والسمات التي تميزوا بها طيلة تاريخهم؛ أي الوسطية والاعتدال والقدرة على المزاوجة بين الحديث والوافد بين المقتبس والأصيل، والتعايش مع التنوع والاختلاف، أصبحت عبئا عليهم من وجهة نظر حكم تنظيم الإخوان والمرشد، ويجب عليهم التخلي عن كل ذلك، والانخراط في منظومة القيم الجديدة التي بدأت تشق مجراها؛ أي قيم الأحادية والاستقطاب ورفض التنوع والانخراط في المذهبية والطائفية الدينية بكل تجلياتها.
أدرك المصريون بحكمتهم الضاربة في أعماق التاريخ وخبرتهم في العمران والحضارة والبناء، أنهم في خطر داهم ووجودي يكاد يعصف بنمط حياتهم ونمط تدينهم البعيد عن التمذهب والطائفية والتي لم يعرفوها طيلة تاريخهم، حيث تبدلت الأحوال والممالك والمذاهب في تاريخهم دون أن تتسلل إليهم روح التعصب المذهبي والديني، بل وقفوا جميعاً عند مستوى ونمط معين من الاعتقاد والتدين والممارسات الدينية، ينأى بنفسه وبهم عن الاستقطاب والانقسام والتحيز، ولم يكن ذلك موقفا اعتباطيا أو عفويا وتلقائيا، ولكنه نتيجة خبرة وحكمة السنين التي اختزنها العقل المصري في مستوياته الواعية وغير الواعية، والتي تستدعى عندما تحين اللحظة ويطل الخطر من مخبئه، الخطر الذي لو تقاعسوا عن مواجهته لأطاح بما حققوه عبر تاريخهم، من وحدة وتمساك وطني ودولة واحدة مركزية امتدت بامتداد تاريخهم.
في ٣٠ يونيو/حزيران 2013، اجتمعت كلمة المصريين شعبا وجيشاً، من كافة الأجيال والفئات والطبقات؛ لمواجهة خطر حكم الإخوان والمرشد والدولة الدينية وخلط الدين بالسياسة، عبر قراءة مغرضة للنصوص الدينية، وتستثمر هذه النصوص للوصول إلى الحكم والسلطة والدولة؛ لتحقيق وهم الخلافة ودولتها التي ارتبطت بحقبة معينة في التاريخ الإسلامي لها مبرراتها ولكنها بالضرورة لا تلائم هذه الحقبة الحالية، من تطور العالم وتطور نظمه السياسية وأنظمة الحكم وتطور حضارته لتصبح حضارة واحدة وثقافات متعددة، اجتمع المصريون شعبا وجيشا على كلمة سواء، ألا وهي إسقاط حكم الإخوان والمرشد، وإسقاط الدولة الدينية أو بداياتها التي رأت النور مع حكمهم، فكانت ثورة ٣٠ يونيو/حزيران و٣ يوليو/تموز 2013 والتي أنهت حكم الإخوان.
استند موقف الجيش والشعب في هذه الثورة على مبادئ أساسية في الوعي والسلوك، وهي تلك المبادئ التي وجهت حركة الثورة ومضمونها والإجراءات التي اتخذتها، ومثلت هذه المبادئ المرجعية الفكرية والثقافية والسياسية التي استرشد بها أداء نظام ما بعد الثلاثين من يونيو نظرياً وتطبيقياً.
أول هذه المبادئ استعادة مكانة وهيبة الدولة المصرية ومؤسساتها، التي حاصرتها جموع الإخوان ومؤيدو التيارات الدينية، المحكمة الدستورية العليا ومدينة الإنتاج الإعلامي، أدركت جموع الشعب والقوات المسلحة الخطر المحدق بالدولة المصرية وأجهزتها؛ ذلك الخطر الذي يستهدف تفكيك بنية الدولة وتطويعها وأخونتها ومحاصرتها تمهيداً لانهيارها وتشكيل بنية جديدة للدولة، تتناسب مع الأهداف الأيديولوجية للإخوان ومؤيديهم، دولة مليشيات وطوائف وليست دولة وطنية لجميع مواطنيها، الفاعلون في ٣٠ يونيو/حزيران كانوا يدركون أهمية الدولة في حياة المصريين فهم أول من أسسوا دولة مركزية في التاريخ توفر لهم الأمن والأمان والسيطرة على نهر النيل، الدولة المركزية هي التي رافقت رحلة المصريين مع الحضارة والعمران والبناء والاستقرار والازدهار واستمرار الحياة، وتجنب التفكك والانهيار، الانتماء للدولة الوطنية يحجب الانتماءات الأولية العصبية والقبلية والعشائرية والطائفية ويضمن المساواة بين جميع المواطنين بصرف النظر عن دياناتهم ومعتقداتهم الدينية، كما يضمن لهم حقوق المواطنة بالمعنى الحديث السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أما ثاني هذه المبادئ فيتمثل في الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني والبحث عن رؤية عصرية لتفسير النصوص الدينية، بما يتلاءم مع حاجات العصر واللحاق به وبما يحقق الانفتاح على العالم، والاقتباس والاحتفاظ بالخصوصية الثقافية، وأصبح تجديد الخطاب الديني وربما لأول مرة في مقدمة المهمات التي ينبغي على مؤسسات الدولة الدينية والثقافية والإعلامية إنجازها، لحصار التفسيرات المغرضة والمسيسة وكسر احتكار الجماعات الدينية الإرهابية لتفسير هذه النصوص وتطويعها لخدمة أغراضهم.
واستندت دعوى وخطاب التجديد الديني إلى مبدأ نسبية التفسيرات وأنها بشرية أي يقوم بها البشر ولا تحظى بقداسة النص الديني وتعني النسبية هنا أنها تخص فترات تاريخية معينة، وأنها اجتهاد لمواجهة ظروف متعينة في الزمان والمكان ومن ثم فهي ليست مطلقة تصلح لكل زمان ومكان، وكونها بشرية أي هذه التفسيرات فإنها تخضع للاجتهاد ولها نصيب من الصحة وربما قدر من التجاوز أي هي ليست منزهة، نزاهة النصوص الدينية المطلقة.
وقد شهدت هذه الدعوى للتجديد منذ انطلاقها تجليات شتى في الواقع العملي والميداني، إما من حيث الفتوى أو مواجهة التفسيرات المنحرفة للنصوص الدينية ومقاومة الإرهاب.
أما ثالث هذه المبادئ التي وجهت أداء نظام ما بعد 30 يونيو/حزيران فيتمثل في اعتماد وتبني صيغة مرنة ومبدئية لإبعاد الدين عن السياسة نظرا للتعارض والتناقص بين هذين المجالين من الفاعلية الإنسانية أي الدين والسياسة فالأول مطلق ومتسامٍ ومنزه وينصرف إلى الكليات الأخلاقية والروحية والفلسفية التي تفسر الوجود والخلق والحياة والموت والثواب والعقاب في حين أن الثاني أي السياسة هي فعالية وضعية؛ أي يتواضع البشر على وضع قواعدها ولا تحظى لا بالقداسة ولا بالإطلاق، بل هي نسبية وإنسانية تحتمل الخطأ والصواب والتغير والتبديل وفقا لتطورات الواقع والمعطيات الجديدة إن داخليا أو إقليميا أو عالميا ذلك أن هذه الدوائر الثلاث تتقاطع وتتفاعل وتؤثر وتستقبل التأثير وتلك سنة التطور منذ ظهور الدولة الأمة والتكتلات الإقليمية والدولية الراهنة.
يمكن وبدرجة ما من المصداقية اعتبار هذه المبادئ بمثابة ميثاق عمل نظام، ما بعد الثلاثين من يونيو وأن الأداء حتى الآن يحاول أن يترجم هذه المبادئ في الواقع الداخلي والإقليمي العربي والدولي، حيث استعادت مصر دورها الإقليمي والعربي وحضورها الفاعل في الساحة الدولية، وتمكنت من نسج وبناء علاقات جديدة مع مختلف الكتل الإقليمية والدولية وبخاصة في أفريقيا وآسيا وأوروبا والدوائر التي كان لمصر السبق في التفاعل معها.
كانت مصر قادرة بحكم موقعها وجغرافيتها ومكانها وحضارتها على صنع نموذج في السياسة الداخلية والخارجية، نموذج يتجاوز تأثيره حدودها الجغرافية إلى جوارها الإقليمي والعربي هكذا كان دورها في حقبة الستينيات وكذلك دورها في حقبة السبعينيات وما بعدها، ويأمل المصريون في هذه الآونة صياغة نموذج للدولة الوطنية الحديثة والديموقراطية التي تحقق طموح المواطنين إلى الحرية والتنمية وتحقيق الاعتماد على الذات ووضع أسس راسخة لمدنية الدولة المصرية وعصريتها.
aXA6IDE4LjIyMi40NC4xNTYg جزيرة ام اند امز