في شهر مارس 2015 التقى الرئيس عبدالفتاح السيسي - لأول مرة - الملك سلمان بن عبدالعزيز في الرياض بعد توليه مقاليد الحكم في السعودية.
في شهر مارس 2015 التقى الرئيس عبدالفتاح السيسي - لأول مرة - الملك سلمان بن عبدالعزيز، في الرياض، بعد توليه مقاليد الحكم في السعودية.
لم تكن هذه هي حالة التعارف الأولى بين الرجلين، فهو يعرفه منذ أن كان ولياً للعهد، والملك سلمان يعرف الرئيس المصري منذ أن كان وزيراً للدفاع.
هو رجل قوي، مؤمن، لكنه لا يحركه الغضب مهما كان «يغلي من الداخل» لأنه قادر على أن يوظف هذا الغضب إلى برنامج تنفيذي مدروس محسوب بالتكاليف ومحدد بالتوقيتات، هكذا وصفه لي أحد مساعديه الذين عاصروه في إدارة الأزمات.
ويدرك الرئيس السيسي ويعلم جيداً منذ أن عمل ملحقاً عسكرياً في السفارة المصرية بالرياض، من هو الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير الرياض - في ذلك الوقت - وأهميته داخل تركيبة الحكم السعودي، وثقله ووزنه النسبي المميز داخل العائلة المالكة، وذلك في فترة وجوده من عام 1998 إلى 1999.
من عاش في الرياض يعرف أن أميرها هو راعي نهضتها، ومركز قوتها منذ عام 1955، ولم ينقطع عن المنصب سوى عام 1960 واستمر فيه كأطول موظف عام وأطول من حكم إمارة الرياض، وهو صاحب التطوير الأضخم لنقلها من حالة القرية - المدينة - إلى حالة العاصمة الحضارية بمفاهيم وإنشاءات عصرية.
ويدرك الرئيس السيسي أن الأمير سلمان كان الأكثر قرباً من الملوك خالد وفهد وعبدالله، وكان محل ثقتهم والجليس الأول عندهم.
ويدرك الرئيس السيسي أن ما يعرف بجناح آل فهد، أي الأشقاء الكاملين من الأم الواحدة التي تنتمي لعائلة السديري (الأم حصة بنت أحمد السديري) وهم «فهد، وسلطان، وتركي، ونايف، وسلمان، وعبدالرحمن، وأحمد»، هم من أقوى نقاط التأثير داخل العائلة.
ولا ينسى - أبداً - الرئيس السيسي تلك المحادثة الهاتفية التاريخية التي أجراها الملك عبدالله بن عبدالعزيز - رحمه الله - مع الرئيس الأمريكي أوباما.
كانت المكالمة عقب ثورة الشعب المصري ضد حكم الإخوان، وكانت هناك ضغوط قطرية وتركية على أوباما من أجل أن تصدر واشنطن بياناً تدين فيه هذه الثورة وتعتبرها انقلاباً وتبدأ سلسلة إجراءات لعزل الحكم الجديد حتى تصل به إلى مرحلة القطيعة والعقوبات.
فى هذه المكالمة: «علا صوت الملك عبدالله، وقال بتأثر وقوة: «لا مساس بما حدث في مصر، وعليكم أن تعتبروا أن أي ضرر يلحق بمصر الآن وكأنه موجّه للسعودية وقيادتها وشعبها».
ولا ينسى الرئيس السيسي الدعم الفوري الذي حصلت عليه مصر من الرياض وأبوظبي عقب ثورة 30 يونيو 2013.
ويدرك الرئيس السيسي شخصياً «محبة وعشق» الملك سلمان لمصر منذ أن تطوع في التدريبات العسكرية للدفاع عن مصر في حرب 1956، وحينما دُعي إلى التبرع والتطوع لمصر عقب حرب 1967.
وأذكر أنني كنت في باريس حينما سعى الأمير سلمان، أمير الرياض في وقتها، إلى عقد أول لقاء بين مسؤول سعودي، عقب مقاطعة مصر، مع الرئيس الأسبق حسني مبارك، وطلب منه أن تتم الموافقة على عمل معرض «الرياض بين الأمس واليوم»، وكانت تلك هي بداية عودة مصر إلى الحضن العربي.
يومها سمعت من الملك سلمان «نحن نعشق مصر منذ طفولتنا، ومنذ عهد الملكين عبدالعزيز وفاروق اللذين ارتبطا بشكل قوي ببعضهما البعض منذ لقائهما الأول في منطقة «جبل رضوى» شمال غرب السعودية عام 1945».
وأضاف الرجل في حواره في عشاء خاص بفندقه في باريس «كنت ناصرياً وقتها أعشق خطب جمال عبدالناصر وأجلس بجانب جهاز الراديو الكبير أستمع إلى إذاعة صوت العرب، وأتابع خطبه وتصريحاته بحماس ولكن بعد حرب اليمن تغيرت مشاعري تجاه ناصر».
هذا كله يشكل «قاعدة راسخة» في عقل وقلب وذاكرة الرئيس المصري، وهو يدير ملف العلاقة المصرية والدور الذي يمكن أن تلعبه القاهرة في ذلك الجو المليء بالصراعات والتوترات، والذي يتم فيه دق طبول حرب لا أحد - وأكرر - لا أحد - يعرف متى وكيف تبدأ ومتى وكيف تنتهي؟
يدرك الرئيس السيسي أكثر من غيره أن هناك مشروعات إقليمية ودولية متعددة كلها أو معظمها ضد المصالح الاستراتيجية العربية بوجه عام وضد مصلحة مصر بوجه خاص.
يدرك الرئيس الأدوار الشريرة الآتية من قطر وتركيا بهدف تقويض الأنظمة العربية المعتدلة، لإقامة حكم المرشد العام لجماعة الإخوان، لإحياء مشروع الخلافة العثمانية بشكل جديد.
ويدرك الرئيس السيسي أن صراع التيارات في إيران يغلب عليه الآن سطوة تيار المرشد الأعلى المدعوم بالحرس الثوري الإيراني والوكلاء الإقليميين في المنطقة بدءاً من اليمن إلى العراق ومن لبنان إلى غزة.
ويدرك الرئيس السيسي جيداً من خبرة التعامل الشخصي المباشر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي دونالد ترامب، أن حسابات كل منهما تهدف بالدرجة الأولى إلى «تعظيم» المنافع الاستراتيجية لموسكو وواشنطن، ولدعم مركز كل منهما السياسي داخل نظامه الداخلي، ولا يقع الرئيس السيسي في وهم الالتزام التاريخي لأي من حلفائهم، ويدرك جيداً أن سياسة الكبار في هذا العالم تقوم على أن أي شيء، وأي موقف، وأي حليف، قابل للبيع والشراء مقابل السعر المناسب.
يفهم الرئيس السيسي بعمق أن هناك مشروعين: مشروع صراع مجنون في المنطقة يقابله مشروع تنمية وإصلاح طموح في الداخل المصري، ويفعل الرئيس كل ما لديه حتى لا يتم استدراج مصر بهدف استنزافها في مشروعات إقليمية شريرة مدمرة تبعد مصر عن مصدر القوة الأساسي، وهو قوة اقتصادها ورفاهية شعبها.
ويعلم الرئيس بخبرته العسكرية العميقة أن الجيوش منذ عهد «أحمس» حتى يومنا هذا بالدرجة الأولى لحماية الأوطان سواء من الداخل أو صد العدوان أو التهديدات على الحدود.
ويدرك الرئيس أن التاريخ العسكري الذي درسه في الكلية الحربية رسخ في ذهنه أن جيش مصر هو أول جيش في التاريخ تم تأسيسه عام 3200 قبل الميلاد.
ويدرك أيضاً الرئيس الذي يتقلد منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة أن تاريخ الجيش في مصر منذ آخر 73 عاماً هو أنه تحرك خارج الحدود في حالات نادرة ومبررة منذ قبل الميلاد، وفي العصر الحديث مثل:
1- حرب فلسطين.
2- الدفاع عن سيناء ومدن القناة 1956 حتى الحدود الدولية.
3- إرسال قوات بين الكويت والعراق حينما تم تهديد الحكم في الكويت في عهد الرئيس عبدالناصر.
4- قتال فرق نخبة تمثل قوات خاصة في الكونغو.
5- حفظ سلام وتأمين للأوضاع في السودان وحرب البوسنة والهرسك.
6- إرسال قوات مشتركة كاملة التسليح والتشكيل إلى اليمن، وكان ذلك أحد الأخطاء الاستراتيجية التي تم خلالها استدراج القوة العسكرية المقاتلة خارج الحدود قبيل حرب 1967.
7- إرسال قوات مصرية لتحرير الكويت وحماية الأشقاء في المملكة والخليج من جنون الغزو العراقي وتداعياته المحتملة.
لا يؤمن الرئيس السيسي بالمغامرات العسكرية العنترية، ويدرك مقولة ونستون تشرشل الشهيرة: «إن الجنرالات هم أكثر من يحاولون دائماً استبعاد اللجوء للحرب».
وكثيراً ما ردد الرئيس المصري، بل بُحّ صوته بضرورة تشكيل جيش دفاع عربي موحد، لمواجهة مخاطر 3 مشروعات غير عربية تهدد المنطقة في أنقرة وطهران وتل أبيب.
وحينما ينظر الرئيس السيسي بشكل استراتيجي، فهو يدرك أن هناك دائرة أوسع في الخليج والمحيط تلعب فيها كل من الهند وباكستان أدواراً سوف يأتي وقتها، خاصة أن كلاً منهما لديها قوة ردع نووية.
من خلال ذلك كله تصبح معادلة الرئيس قائمة على مبادئ شفافة ووطنية وعروبية واضحة:
1- أولوية أي جيش هي حماية الوطن.
2- خروج جيش مصر خارج حدوده لا بد أن يكون له هدف ومبررات استراتيجية جوهرية ولا بديل عن اللجوء إليها.
3- أولويات الأمن القومي المصري في المنطقة يمكن فهمها (حد تصوري الشخصي):
1- حماية الحدود الدولية.
2- منع أخطار من الجيران بشكل استباقي.
3- أي تهديد لمصادر أو حصص مصر من مياه النيل.
4- أي تهديد أو مساس بمسارات العبور وحركة التجارة والنقل من وإلى قناة السويس، ومن هنا تأتي أهمية البحر الأحمر ومضيق هرمز وتداعيات الوضع في اليمن.
5- أي اعتداء على دول شقيقة، وهناك تحالفات تاريخية ومصالح حالية وتنسيق أمني وعسكري مع مصر مثل السعودية والإمارات والبحرين والأردن.
لا يتحرك الرئيس المصري بانفعالات، رغم أنه إنسان روحاني وعاطفي، لكنه يتحرك في مثل أمور الحرب والسلام بحسابات دقيقة وقياسات عميقة لمعنى الفعل وتداعيات رد الفعل.
هو رجل قوي، مؤمن، لكنه لا يحركه الغضب مهما كان «يغلي من الداخل» لأنه قادر على أن يوظف هذا الغضب إلى برنامج تنفيذي مدروس محسوب بالتكاليف ومحدد بالتوقيتات، هكذا وصفه لي أحد مساعديه الذين عاصروه في إدارة الأزمات.
وحينما يجلس الرئيس - الزوج - الأب - عبدالفتاح السيسى مع زوجته السيدة إنتصار وأبنائه الذين يحتلون مساحة غير عادية في قلبه: محمود ومصطفى وحسن وآية يحرص على أن يؤكد لهم أنه "لم يكن يوماً طالباً لسلطة أو سلطان، لكنه كرجل يؤمن بالقدر يستجيب لقدر الله سبحانه وتعالى الذى ولّاه هذه المسؤولية ووضع على كاهله ما لا يطيقه بشر من المسؤوليات".
ومن ضمن هذه المسؤوليات قرار الحرب والسلام في منطقة صراعات مجنونة وشريرة تهدف بالدرجة الأولى إلى إضعاف العرب من خلال ضرب مشروع الدولة الوطنية وتقسيم العالم العربي إلى دويلات.
نقلاً عن "الوطن المصرية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة