صاحب أشهر علامة نصر يشرح لـ"العين" كيف احتضن سيناء بين أصبعيه
المقاتل البطل محمد طه، أحد أهم الوجوه المعروفة إعلاميا في حرب أكتوبر، وصاحب أشهر علامة نصر تظهر في الأفلام والصور التي توثق الحرب.
المقاتل البطل محمد طه، أحد أهم الوجوه المعروفة إعلاميا في حرب أكتوبر، وصاحب أشهر علامة نصر تظهر في الأفلام والصور التي توثق الحرب، كواليس كثيرة وراء هذه الصورة، يرويها المجند البطل في حوار خاص لبوابة "العين" الإخبارية:
علامة النصر هي كل ما يرمز لك في سجلات حرب أكتوبر.. هل يزعجك الأمر؟
بل هي علامة تختصر النصر بالكامل، فقد اشتهرت بعلامة النصر أكثر من البطولات التي قدمتها بوصفي جنديا ومقاتلا مصريا في حرب السادس من أكتوبر، ولا شك أنه أمر يسعدني جدا، خاصة عندما أشاهد هذه العلامة مستخدمة في كل مقام، فالصبية الصغار مثلًا عندما يلعبون بالكرة، ويهزم أحدهم الآخر، فورا يشير بعلامة النصر التي رفعتها بسبابتي والوسطى في صورتي الشهيرة التي التُقطت ثاني أيام العبور، وكان يوافق 7 أكتوبر.
هل يدرك أحفادك قيمة هذه الصورة؟
بالطبع، ذات مرة إحدى الصغيرات من أحفادي في مدرستها قالت للمدرسة إن الصورة المعلقة على أحد جدران الفصل صورة جدي، فلم تصدقها، فحضرت للمدرسة في اليوم التالي مباشرة، وقلت لها بلى، أنا محمد طه صاحب الصورة، وما وجدت منهم إلا انبهارا و فرحا شديدين.
اشرح لنا كواليس هذه الصورة؟
قصتها كبيرة ولم تُلتقط بشكل عشوائي، كنا أثناء معركة شديدة بالطيران بموقع اسمه عيون موسى، وأحد رفقاء السلاح أصابته دانة بترت رجله تماما، وحتى لا يموت من النزف، كان لابد أن يتم حمله إلى أقرب نقطة لتلقي العلاج شرق قناة السويس، وكانت المسافة حوالي نصف كيلومتر مربع أو يزيد بقليل، فتطوعت أنا أن أحمله، وزميل آخر تطوع بحمل الرجل المقطوعة، ثم عبرنا قناة السويس بالسباحة، وفي ذلك الوقت المجرى لم يكن نظيفا وممهدا، فالقناة بعد هزيمة 1967، كان بها سُفن غارقة وشُعب مرجانية، والسباحة فيها صعبة للغاية، ورغم ذلك، عبرنا بزميلنا الغائب عن الوعي وسلمناه لوحدة العلاج.
في ذلك الوقت، آثرت أن أعود إلى غرب القناة من خلال إحدى الثغرات والممرات التي تم فتحها في ساعات العبور، بدلًا من العودة عبر السباحة في القناة، في ذلك الوقت قابلني مراسل صحفي حربي – رحمه الله – يُدعى فاروق إبراهيم، تعرفت عليه أكثر بعد 15 سنة من الحرب، لكنه في تلك اللحظة قال لي: أنا عاوز اصورك، فرحبت فورا، ودون أي تحضير مُسبق للصورة وقفت ورفعت أصبعيّ بالهيئة التي التُقطت عليها الصورة، دون أي تفكير، وبتلقائية شديدة.
وماذا يعني الرمز الذي استخدمته للإعلان عن النصر؟
بقليل من الملاحظة، نجد أن الإشارة بالسبابة والوسطى وإخفاء باقي الأصابع في قبضة اليد، تمثل شكل خريطة سيناء، فخليج العقبة تمثله السبابة، والوسطى تمثل خليج السويس، ويحتضنان أرض سيناء، حيث تمثلها منطقة الفراغ بين الأصبعين.
وأعتقد أن تاريخا مختزنا في ذاكرتي دفعني بشكل لا شعوريّ أن أشير بهذه الشارة في ذلك التوقيت، فعندما حلت بمصر هزيمة 67، لم أكن قد التحقت بالخدمة العسكرية بعد، وكانت هزيمة وذلا وعارا كبيرا، ربما لذلك السبب رفعت علامة النصر بشكل تلقائي بعد ساعات من العبور لحظة التقاط الصورة، أردت أن أطمئن الشعب المصري وأقول لهم وللعالم أجمع (انتهى الأمر وسيناء أصبحت في أيدينا)، وكان ذلك يوم 7 أكتوبر في الفترة بين العصر والمغرب.
هل تذكر لنا بعض التفاصيل التي لم يكن يعلمها أحد قبل بدء المعركة؟
من الخدع التي استخدمها الرئيس الراحل محمد أنور السادات، أنه قبل 10 أيام من الحرب، أرسل ضباطا وجنودا لأداء العمرة، وأنهى خدمة آخرين، ثم استدعاهم وقت المعركة، لكن إسرائيل تصورت أن احتمالات الحرب على الجانب المصري قد انتفت مع هذه الإجراءات، فالأمور كلها تسير على ما يرام.
كذلك قبل حرب 73 كان العالم يعرف أن الحروب دائما تبدأ في أول ضوء، فلا يوجد حرب يذكرها التاريخ تبدأ الساعة 2 ظهرا، حتى إن يوم 6 أكتوبر مر كيوم عادي لدى العدو الإسرائيلي حتى انطلاق الضربة الجوية المصرية في الظهيرة، وللعلم فإن الشمس في هذا التوقيت تكون في خلفية الجندي المصري، وليس في مواجهة عينه، فيتمكن من الرؤية الصافية، بينما تكون في عين العدو الإسرائيلي، وهو ما يُضعف المقاومة لديه، فالرئيس السادات تصرف كثعلب ماكر.
أنتم كجنود، متى عرفتم بموعد الحرب؟
عشية 6 أكتوبر، حتى ذلك التوقيت لم نكن نعلم أي معلومة عن وقت المعركة، رغم التدريبات الشاقة اللي كنا ننفذها على عبور مانع مائي، على صعود بارليف، وكانت تدريبات شاقة إلى حدّ أنْ لا فرق بينها وبين ساعة الحرب الحقيقية.
وفي يوم 5 أكتوبر بعد دخول المغرب أتت الأوامر بالتحرك، وكنا بوصفنا جنودا مقاتلين نظن أننا نتحرك لتنفيذ تدريب جديد، بينما كانت القيادة تعلم أن ساعة الحرب قد أوشكت، "بنتحرك رايحين فين كجنود مقاتلين"، ارتدينا ملابس الميدان وبدأنا – الجيش الثالث - نتجه على خط القناة، حتى وصلنا لمنطقة "الجناين" في السويس، وبها أشجار كثيرة، كانت تغطينا حتى لا يكشفنا العدو، وبتنا تلك الليلة في هذه المنطقة وبداخلنا مشاعر غريبة، فالوجبة التي تلقينها أيضا هذه المرة كانت مختلفة عن تلك التي نتلقاها أثناء تنفيذ تدريب أو الاعتيادية التي نتسلمها في كتائبنا، ليتضح لاحقا أنها وجبة حرب، تحتوي على قطع جبن، مربى، شاي، سكر.
وفي يوم 6 أكتوبر، حوال الساعة 2 إلا الثلث، جاءنا الخبر بأننا سنعبر اليوم، فارتفعت أصواتنا (الله أكبر) بفرحة الثأر الذي سنأخذه أخيرا من العدوّ، ولم تمر دقائق حتى شاهدنا طائراتنا تعبر، نظرنا إلى الجانب الآخر لنجد أبراج المراقبة والاستطلاع التي يراقبنا العدو من خلالها شرق القناة تنهدم وتسقط، وهذا المشهد كان حافزا للجنود التي لم تعبر بعد، فالطيران نفذ ضربته الجوية القاضية وعاد، المدفعية الثقيلة استهدفت خطوط العدو ونفذت، وفي هذه اللحظات نفخنا القوارب وبدأنا العبور.
حدثنا أكثر عن لحظات عبور خط بارليف؟
كنا نعبر والجندي وزنه يعادل 200 كيلو، حيث يحمل "شدة" بها عدة قنابل، طلقات، كيما أو قناع، بلطة كبيرة، إلى جانب خوذته والبيادة وغيرها، لكن رغم ذلك ورغم الصيام، لم نكن نشعر بهذا الحمل ونحن نردد (الله أكبر).
فالنصر في هذه الحرب أتانا من عند الله، آزرنا لأنه يعلم أننا أردنا تحرير أرضنا والحفاظ على عرضنا، وكانت حربنا في رمضان أسوة بغزوة بدر أول غزوة في الإسلام، واستشعارنا الكبير لمعية الله لنا جعلنا نسمع أصواتًا تردد معنا الله أكبر لم تكن بيننا وكأنها جنود من السماء.
هل من أسطورة تذكرها عن الحرب؟
لست وحدتي التي أذكرها ولكن سطرها التاريخ لتتعلم منها الأجيال، أحد المواقف الذي يبرز العقيدة العسكرية للجندي المصري، جسدها من أُطلق عليه لقب الشهيد الحي.
العقيدة العسكرية المصرية ألا نترك مصابًا أو شهيدًا من جنودنا في أرض المعركة، فيأخذه العدو ويُمثل بجثته، وكان الشهيد الحي نموذجًا يصور هذه العقيدة، كان اسمه عبد الجواد سويلم، جندي من الصاعقة المصرية، كان السلاح في حرب الاستنزاف يُنفذ عمليات خلف خطوط العدو تتضمن نصب كمائن وتسديد ضربات نوعية ضد العدو قبل حرب أكتوبر، وفي ذات يوم خلال تنفيذ إحدى العمليات، أطلق العدو صواريخ عليهم، فأصاب صاروخ جسد عبد الجواد، والصاروخ بقوته يستطيع تدمير دبابة أو إسقاط مبنى شاهق، فالأمر بالغ الصعوبة إذا أصاب جسدا بشريا، على الفور بتر رجليه ويده، وإحدى عينيه لم يعد لها وجود، وتبقى منه جزء صغير، فما كان من زملائه إلا أن حملوه، أحدهم حمل الرجلين واليد المبتورة، والآخر حمل الجسم الصغير المتبقي ، حتى وصلوا به إلى المستشفى ورغم أنه كان شبه ميت، إلا أن علاجه قد تم بسلام بعد تركيب أطراف صناعية له، وزاره في ذلك التوقيت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقاله (اطلب يا عبد الجواد أي حاجة وسنُنفذ).
فقال: (أنا عاوز أروح الجبهة تاني)، مما دعا ناصر للاستغراب وقال له (طيب بس لما تخف إن شاء الله)، وبعد أن أنهى فترة العلاج الطبيعي وأمرت له القيادة بالإجازة بعد أن أصبح قادرا على المشي بالأجهزة الصناعية، ما كان منه إلا أن يتوجه مباشرة إلى الجبهة وليس إلى منزله، لم يكن وحده يمتلك هذه الروح، بل كان هناك مصابون كثيرون كانوا يستميتون للعودة إلى الحرب فوق الجبهة.
بصفتك مربي أجيال، ما الذي ينقص هذا الجيل في رأيك؟
مادة التربية العسكرية التي كنا ندرسها ونحن تلاميذ بالمرحلة الثانوية، استفدنا منها الكثير، وما استفدناه هو نفسه ما ينقص أجيال اليوم، على الأقل كنا نتعلم كيف أقف انتباها وأنا طالب، كيف أمشي الخطوة العسكرية، كيف أمسك بالبندقية وأفكها وأعيد تركيبها، كان المدرس يرتب صفًا ويأتي بأحد الطلاب قائدًا له، فكان يتعلم كيف يقود مجموعة وكيف يتحمل مسئولية تحية العلم، وأكثر من ذلك، كنا نزهو بأنفسنا ونحن نرتدي زيّ الحصة العسكرية في هذه السن الصغيرة، وكان هذا الشعور وحده كفيل بتربية روح الانتماء للعسكرية المصرية.
كيف التحقت بالجيش في فترة كانت مصر تعفي فيها المدرسين من الخدمة العسكرية؟
لم يكن الأمر سهلًا البتّة، تخرجت في الجامعة مدرسا، وفي ذلك الوقت كان يتم تعيين المدرسين بمجرد التخرج لظروف عجز الأعداد، وبمجرد أن تم إدراج اسمي بين المعينين، سألت نفسي (هو أنا ماليش جيش ولا ايه، هو أنا مش راجل ولا شاب زي زمايلي اللي دخلوا الجيش ولا ايه).
كان أول رد على تساؤلاتي أنه تم تأجيلي 4 سنوات، ورغم أني كنت متزوجا في ذلك التوقيت، رفضت العمل، وطرقت باب مدير المنطقة التعليمية الأول، لأبلغه برغبتي في الخدمة العسكرية، نعتني بالجنون لاستغرابه الطلب، ورفضت التأجيل بكل الطرق، فقال لي إن الأمر ليس بيده لأنني أنتمي لفئة المدرسين والقوانين تحكم بنود الخدمة العسكرية الخاصة بهذه الفئة.
بعد ذلك أرسلت تلغرافات لوزيريّ التربية والحربية، وبعد 3 زيارات لإدارة التجنيد، قال لي مدير الإدارة: (ماشي أنت عاوز تتجند، لبسوه، أنا مش عارف الواد دا مجنون!) ثم بدأت رحلتي في سلاح المشاة الفرقة 19 من سنة 1972 وحتى 1976.
لماذ كان كل هذا الإصرار على الخدمة رغم ظروف الحرب؟
التربية العسكرية التي تلقيناها في المرحلة الثانوية وخطب عبد الناصر كلها نمّت بداخلنا روح الوطنية، وكنت أشعر وأنا مدرس أن لنا ثأرا في هزيمة 67، كيف سأُدرس لتلاميذي أن أرضي محتلة، كان حلمي أن أدرس لهم ملحمة الثأر والانتصار، وقد كان.
كان عندي بنت قبل الحرب، في الحصار لما دخلنا الحرب، وبعدما فرغنا ونزلنا أول إجازة في فبراير 74، عرفت أن بنتي ماتت.
منذ ذلك الوقت وحتى الآن، كيف مرت حياتك؟
رزقني الله بعد الجيش بأربعة من الأولاد، اثنين من الذكور واثنتين من الإناث، أكبرهم أحمد ويعمل ضابطا بالقوات المسلحة.
وقضيت 30 عاما بدولة الكويت حيث عملت فيها مدرسا وكونت فيها أهم علاقات في حياتي، وعدت إلى القاهرة لأرافق رفيقة عمري زوجتي في رحلة مرضها حتى فاضت روحها في عام 2004.