اللواء دكتور نصر سالم، قائد فريق استطلاع على مستوى القيادة خلف خط العدو بحرب أكتوبر، بدأ مهمته "المستحيلة" 6 أكتوبر وطالت 6 أشهر
قائد مصري قطع 4 ساعات سيراً على الأقدام، داخل سحابة سوداء كثيفة فوق جبل، لأداء مهمته في استطلاع تحركات العدو، تلك المهمة التي خرج منها ورفاقه كأنهم إنسان الغاب بعد وقت طويل عاشوه في الصحراء على فتات خبز وقطيرات مياه.
يروي اللواء الدكتور نصر سالم، رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق لـ"بوابة العين" الإخبارية بعضاً من المواقف النادرة التي عاشها ورفاقه خلال 180 يوماً، كانت من الأركان الأساسية في تحقيق نصر أكتوبر 1973.
ما دور قوات الاستطلاع في نصر أكتوبر؟
ودقة المعلومات التي نقلتها فرق الاستطلاع اختصرت الضربتين الجويتين التي كان مخطط لهما في معركة العبور إلى ضربة جوية واحدة، حققت الأهداف التي كانت مرصودة للضربة الثانية أيضاً وبخسائر لم تصل إلى 2%.
تلك المعلومات عن خط بارليف الذي بناه العدو في سنوات كانت سبباً في نسفه والعبور خلال 6 ساعات.
حدثنا عن المساحة التي كنت تستطلعها.
كنت ضمن عناصر الاستطلاع التي تعمل على مستوى القيادة العامة، وكنت أنقل معلوماتي للقيادة العامة التي تعطي أوامرها لقادة الجيوش بالتعامل المباشر مع العدو.ونفذت مهمتي في موقع بوسط سيناء يبعد عن حد الأمان من قواتنا نحو 150 كيلومتراً، هذه المنطقة بها محور يبدأ من أرض العدو إلى الجبهة المصرية، فكنت أبلغ بأي معلومات تحدث عليه، وفي منطقة عملي كان يوجد مطار ولواء مدرع إسرائيلي..
ما أدواتكم التي كنتم تستخدمونها؟
كنت أستطيع كشف مساحة 20 كيلو على الأقل من فوق الجبل، بمساعدة معدات الرؤية التي كنا مزودين بها، وأدواتنا للاستطلاع آنذاك كانت نظارة الميدان للرؤية، وبوصلة مغناطيسية للملاحة البرية، وخارطة، وجهاز لاسلكي لا يقل وزنه عن 10 كيلوجرامات، وكان وزناً قليلاً نسبياً في ذلك الوقت، كذلك السلاح الشخصي وهو بندقية آلية، وقنبلتان يدويتان، واتصالنا بالقيادة بالبرق الكاتب.
هل تذكر أول ضربة تم توجيهها بناءً على معلومات منك؟
في 7 أكتوبر، حدثت قصة جميلة جداً، كنت أراقب فوق جبل، يوجد أسفل منه مباشرة لواء مدرع خاص بالعدو تم ضربه مرتين متتاليتين ببلاغين مني، كان اللواء يستعد للتحرك باتجاه الجبهة المصرية يوم 7 أكتوبر، وبمجرد أن بدأوا الخروج من الحفر واصطفت دباباته ليلًا استعداداً للاتجاه نحو الجبهة المصرية، بدأت أنا بالإبلاغ عنه، وعلى الفور حضرت 4 طائرات ميج21 من سلاح الجو المصري دمرت أكثر من ثلث اللواء المدرع قبل الغروب بساعتين.
كان من أجمل المشاهد التي رأيتها في حياتي ونحن نشاهد دبابات العدو تنتشر هرباً من صواريخ الطائرات المصرية، وتصطدم ببعضها البعض وتنفجر، كان أقرب لمشاهد الأفلام الكارتونية المضحكة.
وفي هذا اليوم تراجع العدو عن التحرك نحو الجبهة المصرية وقضى الليلة في إعادة تأهيل معداته لتنفيذ الخطة نفسها في اليوم التالي، وحدث له الأمر نفسه في ذلك اليوم أيضا.
أصريت حينها أن أصف للقائد العام المشهد بنفسي، ولكن قلت له قبل أن أصف لك المشهد المفرح.. طمني على المصريين، وما حال الكآبة التي على وجوههم (المقصود التأثير الذي كانوا عليه من حرب 1967)، قال لي: "فرحانين وبيغنوا وبيزغردوا" (بسبب نصر أكتوبر 73)، شعرت حينها بقيمة المهمة التي نؤديها خلف خطوط العدو.
على أي أساس تواصلت مهمتك في الاستطلاع لما بعد الحرب؟
دوري بدأ يوم 6 أكتوبر، ومهمتي طالت إلى 6 أشهر أخرى أي 180يوماً، فالاستطلاع عين في قلب العدو على مدار الساعة.
في هزيمة 1967 عندما انسحب جيشنا مجموعات الاستطلاع استمرت، وعلى مدار الفترة منذ 67 وحتى حرب 73، لم يخلُ جبل في سيناء من قوات الاستطلاع المصرية، حتى تظل العين على العدو تنقل للقيادة كل تحركاته، ويكتشف التهديدات المنتظرة، والطريقة التي يفكر بها العدو، وعلى النهج نفسه استمرت مهمتي لإخماد الصحوات التي حاول العدو أن يعاود السيطرة بها على الأرض المصرية في الفترة التالية للنصر.
على مدار 180 يوماً.. كيف كنتم تأكلون وتشربون؟
يوميتنا كانت عبارة عن لتر ماء في "زمزمية" زنة 750 جراما من الطعام ما بين حصة بولبيف، وسردين، وعدس، وحصة من البسكوت المملح، وظرف به شاي مُحلى ووقود جاف نستخدمه للإشعال، وبدأنا مهمتنا كفرقة استطلاع مكونة من 3 أفراد كنت قائدهم، بمؤونة 6 أيام فقط، حيث كانت مهمتنا محددة بهذه الأيام.
لكننا توقعنا أن المؤونة لن تكفي لمدة طويلة، فقررت أن نقتصد في الاستهلاك بأن نتغذى نحن الثلاثة على حصة شخص واحد، ولذلك المؤنة التي كان من المقرر أن تكفينا 6 أيام، استمرت معنا 20 يوماً، وفي 26 أكتوبر كانت مؤنتنا من الطعام نفدت إلا من نصف زمزمية ماء، قررنا عدم الاقتراب منها إلا للضرورة القصوى، وكنا نقطر بها على ألسنتنا التي تيبست من العطش.
وللبحث، سرنا في الصحراء بحثا عن بئر ماء لمدة 6 أيام دون مؤونة، حتى توقف الزميلان عن المشي من شدة التعب، فحفظت مكانهما وظللت أسير حتى وجدت 3 آخرين من فرقة أخرى معهم بطيخ يسمى بالعجر، التهمت بعضه بنهم شديد، وأوصيتهم أن يهرعوا بالباقي إلى زميلي اللذين توقفا عن المشي لإغاثتهما.
ما قصة السحابة التي سرت فيها دون أن تعلم؟
صف لنا هيئتك ورفاقك بعد 6 أشهر بين الجبال؟
كنا نشبه إنسان الغاب، ومن يرانا يبتعد عنّا، 6 أشهر دون أن نحلق لحانا أو شعرنا، ملابسنا رثّة، ذابت من ملح العرق، حقاً كنا نغسلها في المطر إلّا أن الرقع بها كانت كبيرة ومُهلهلة، كانت جلابيب أحضرها لنا بدو سيناء، و"الأفرول" العسكري فوقها يقينا من البرد.
مشهدٌ تشعر بأنه لخّص ملحمة العبور.
هدية أرسلها لنا الله في آخر يوم بعد أن أخذتنا عربة الجيش لنعبر القناة ونسلم مأموريتنا.
ونحن نعبر قناة السويس على أحد الكباري العائمة، المعبر نفسه الذي عبرت به قواتنا في 6 أكتوبر، في اللحظة نفسها كانت هناك مدرسة ابتدائي يخرج منها أطفال صبيان وبنات ذات ضفائر وشرائط حمراء وبيضاء مبهجة، يعبرون من المعبر نفسه على أقدامهم، يصفقون ويغنون (يا بلادي يا بلادي، أحلى البلاد يا بلادي)، لولا أن شكلي سيُفزعهم كنت نزلت لحضنهم وتقبيلهم، في اللحظة التي رأينا المصريين يعبرون من المكان نفسه بهذا الأمان وأطفالنا يمرون بهذه الفرحة.. في تلك اللحظة فقط شعرت بالنصر.