محمد خان.. عاشق الأكل الذي حقق حلم أحمد زكي وكانت "البطيخة" أولى خطواته السينمائية
مسيرة وأفلام المخرج محمد خان الذي سعى بصدق واجتهاد لتكون الواقعية هي صوت السينما، لا يعرف الاستديو ومشاهده دوما من الشارع.
"أحب الناس تفتكرني بأفلامي" وما تمناه محمد خان حدث، فذكر اسمه يعني فتاة تُسرع الخطى متلهفة لترى حبيبها، وكادر واسع على شارع في قلب القاهرة يمنحك نظرة متأملة على المدينة المُحيرة، وأشخاص تشبهنا تحمل الطباع الحسنة والسيئة، تُغمس من واقعها لقمة تبحث بها عن السعادة والحب والراحة.
بإرث سينمائي مخلص للواقعية، ترك خان أعمالا مشاغبة مثله وتنبض بالحياة، في أفلامه رأينا الطعام جزء من الحدوتة، والمكان أحد الأبطال، والتفاصيل هي السر، كأننا شاهدنا جانبا من حياة شخص نعرفه أو اصطدمنا به في أحد الشوارع، أو جلس جوارنا في المواصلات العامة، ليبدو برحيله عن عالمنا فداحة ما خسرته السينما المصرية.
بالصور.. لقطات وخطابات نادرة للراحل محمد خان
عن محمد خان
القصة بدأت من أرض شريف بعابدين في وسط القاهرة، حيث عاش محمد حامد حسن خان مع والده الطبيب الباكستاني زرئيس الجالية الباكستانية ووالدته حسنية المصرية من أصل إيطالي، كما حمل الجنسية الإنجليزية. ولد في 26 أكتوبر عام 1942 وظل الطفل الوحيد لأبويه، فصار كل ما يتمناه مُجاب، درس في المدارس الحكومية المصرية "أبويا ربّاني أني مصري وأنها بلدي ولازم أحبها وأكون جزء منها" رغم نيله للجنسية المصرية قبل وفاته بسنوات قليلة.
«ربما كانت الشخصيات من الخيال، لكن ثق أن الأماكن من الواقع» من فيلم "خرج ولم يعد".
السينما وصداقة شيمي
أمام منزله، كان هناك صالتا سينما، وكانت تسليته الوحيدة هو مشاهدة الأفلام كل أسبوع وغالبا ما يرافقه سعيد شيمي، الذي صار مدير تصوير أغلب أفلامه، فكانت أسرتا خان وشيمي أصدقاء يتبادلان الزيارات والود، فيذهب الولدان معا سعيد و"ميمي"، لقب خان في طفولته.
"كنّا بنعمل حاجة غريبة وقتها، وهي أننا نسجل رأينا في كل فيلم ونديه تقييم، ونذكر المخرج والمصورين والأبطال" يتذكر سعيد شيمي كيف كانت طفولتهما حول السينما، التي أثرت في مسار كل منهما على مدى علاقة صداقتهما التي لم يفرقها سوى رحيل محمد خان، وسجلها شيمي في سلسلة من 3 أجزاء بعنوان "خطابات محمد خان إلى سعيد شيمي" وصدرت عن دار الكرمة في الذكرى الثانية لرحيله.
«إهداء إلى زمن.. وصوت عبد الحليم حافظ» من فيلم "زوجة رجل مهم".
دراسة الهندسة في لندن
لم يخطر ببال محمد خان أن تكون السينما التي يحب مشاهدتها، واعتاد أن يتابع أعمالها العالمية من التشيك وفرنسا وهولندا وأمريكا، ومخرجيها البارزين أمثال أنطونيوني وفلليني، يمكن أن تكون يوما مسارا مهنيا، ولذلك قرر أن يدرس الهندسة المعمارية التي كانت تستهويه.
وفي أثناء دراسته للهندسة بلندن، التقى صدفة بشاب سريلانكي يقطن معه بنفس البناية، وبتبادل الحديث علم دراسته للسينما، وعرف منه عن المعهد الوحيد في إنجلترا المتخصص في تدريس السينما حينها، وكان ذلك في أواخر الخمسينات، فالتحق بمدرسة لندن لتقنيات الأفلام المعروفة بـ London Film School (LFS) "وسبت الهندسة ودورت على شغل عشان أدرس سينما بعد الضهر".
«تحية من أحد الفاشلين إلى كل الناجحين» من فيلم "السوبر ماركت"
مخرجاً للإعلانات في لبنان
عاد بعد دراسته إلى مصر، وعمل مساعد مخرج مع صلاح أبو سيف عام 1963، وكذلك بقسم القراءة والسيناريو مع مخرجين كبار مثل رأفت الميهي ومصطفى محرم، ولكنه قرر أن يسافر إلى لبنان عام 1964، وقضى بها عامين اشترك خلالهما كمساعد مخرج بعدد من الأفلام التي وصفها بـ "التافهة".
«فيه ناس بتلعب كورة في الشارع.. وناس بتمشي تغني تاخد صورة في الشارع.. فيه ناس بتشتم بعض.. تضرب بعض تقتل بعض في الشارع.. فيه ناس تنام ع الأرض في الشارع.. وناس تبيع العرض في الشارع.. وفي الشارع ..أخطاء كتير صبحت صحيحة.. لكن صحيح حتكون فضيحة.. لو يوم نسينا وبوسنا بعض في الشارع». أمينة جاهين، فيلم "الحريف"
لندن ومحل "جينز"
من بيروت إلى لندن مرة ثانية، هروبا من تساؤلاته لنفسه عن ما يريده بالفعل؟ لماذا يصنع أفلام ويعمل بالسينما؟ ومع انتقاله وقعت حرب 67 وتسللت تبعات النكسة إلى نفسه وأصيب بالإحباط، "وقتها حسيت أنه السينما بتبعد عني" وبدأ يهجر حلمه بصناعة الأفلام، وافتتح محل ملابس "جينز"، وفكر مع صلاح أبو سيف في افتتاح مطعم "فول وطعمية".
وعن طريق الصدفة تعرّف إلى المونتيرة الراحلة نادية شكري- التي عملت في أغلب أفلامه فيما بعد- وزارته مع أحد الأصدقاء عندما كانت في رحلة عمل إلى لندن، تتذكر نادية "بيته ومكتبه عبارة عن أفيشات أفلام وكتب عن السينما، وكان بيكتب قصة ضربة شمس"، فاستنكرت أن يترك حلمه "قولت له أنت بتعمل إيه هنا، أنزل مصر وأنتج أفلامك".
ولم يمر سوى ثلاثة أشهر، وكان محمد خان في القاهرة يستعد لإنتاج وإخراج فيلمه الأول، باع محله الخاص في لندن، وتناسى تجربة فيلمه القصير "البطيخة" الذي أخرجه عام 1972، ولم ينل التقدير اللازم، واستعد لبدء مشواره الفني برؤيته الخاصة وحلمه في تجسيد الواقع.
محمد خان.. مخرج الواقعية الذي حاول أحمد زكي ضربه بالسكين
أول أفلام المخرج محمد خان
"كنت عاوز أبين عضلاتي كمخرج.. أثبت وجودي وأني عندي حس مرئي ودرامي" أسس خان لقصة فيلم ضربة شمس وتفاصيله ومشاهد الأكشن، منذ كان يعيش في لندن، عاد إلى مصر ووجد نور الشريف متحمسا للفيلم، رغم أنه اعترف أن الاعتماد على محمد خان "مجازفة كبيرة"، لكنه وثق بوجهة نظره واطمأن لإلمامه بالتقنيات، فأنتج الفيلم.
صدر "ضربة شمس" عام 1980، كتب السيناريو فايز غالي، واشترك في البطولة نورا وليلى فوزي، واستطاع أن يحقق نجاحا قويا، وأحدث جدالا واسعا، وكان ينتوي خان ونور الشريف إنتاج جزء ثاني للفيلم باسم "شمس الخريف"، لكن لم تواتهم الفرصة المناسبة.
"كنت عاوز أبين عضلاتي كمخرج.. أثبت وجودي وأني عندي حس مرئي ودرامي"
محمد خان مخرجًا للسينما الواقعية
"المخرج الصادق لا بدّ يكون اشتراكي، لا بدّ يكون عاوز عدالة اجتماعية، أمال يعمل فيلم عن الناس إزاي؟!" بهذه القناعة أخرج محمد خان 24 فيلما، عكس فيهم آلام الناس وأفراحهم، ضحكاتهم وبكائهم وصمتهم العاجز، اختار الشارع الذي اعتبره الحياة ونبض المدينة بضوضائه وحركة السيارات والبشر، وبحث مع شخصياته عن ذاته، رافضا الظلم الذي وقع عليهم والفقر الذي وقعوا فيه.
أفلام محمد خام كانت عنوان للواقعية الجديدة في السينما المصرية مع أوائل التمانينات، المرحلة التي عنى فيها المخرجون بتفاصيل الحياة اليومية للمصريين، يرصدون متاعبهم ومشكلاتهم وآمالهم، كان خان أهم مؤسسيها وزامله عاطف الطيب وخيري بشارة وأسسوا معا شركة أفلام الصحبة التي أنتجت فيلمه "الحريف"، لكنها لم تستمر.
"المخرج الصادق لا بدّ يكون اشتراكي، لا بدّ يكون عاوز عدالة اجتماعية، أمال يعمل فيلم عن الناس إزاي؟!"
من أفلام محمد خان
تعاون خان مع نجوم جيله من يحيى الفخراني وعادل إمام وأحمد زكي ومحمود عبد العزيز، ورافقه في أغلبها بشير الديك في كتابة السيناريو والحوار، والمونتيرة نادية شكري، ومديرا التصوير سعيد شيمي وطارق التلمساني، وقام بتأليف أكثر من نصف أفلامه، أو كان صاحب فكرتها الأساسية. ومن بين أفلامه:
- الرغبة (1980)
- الثأر (1982)
- نص أرنب (1983)
- يوسف وزينب (1984)
- مشوار عمر (1986)
- عودة مواطن (1986)
- زوجة رجل مهم (1988)
- سوبر ماركت (1990)
- فارس المدينة (1992)
- يوم حار جدا (1993)
- مستر كاراتيه (1993)
- الغرقانة (1993)
- كليفتي (2004)
- بنات وسط البلد (2005)
- في شقة مصر الجديدة (2007)
- قبل زحمة الصيف (2015) وكان آخر أفلامه
طائر على الطريق- 1981
"السينما الحقيقية اللي كان نفسي أعملها بدأت من طائر على الطريق" من شخصية فارس التي ظهرت بأشكال مختلفة في "الحريف" و"فارس المدينة"، التي اعتبرها تمثل جزء كبير منه، وفي محاولات كل "فارس" في البحث عن نفسه. يعتبر الفيلم أولى بطولات أحمد زكي، ويدور حول فارس الذي يعمل على سيارة بيجو بخط الأقاليم، ويصادف سيدة متزوجة يقع في حبها.
شارك بطولة الفيلم فريد شوقي وفردوس عبد الحميد وآثار الحكيم، وكان فكرة محمد خان وكتب السيناريو والحوار بشير الديك.
"السينما الحقيقية اللي كان نفسي أعملها بدأت من طائر على الطريق"
موعد على العشاء- 1981
رغم الصداقة القوية التي كانت تجمعه بسعاد حسني، أخرج لها فيلما واحدا فقط، وهو موعد على العشاء، الذي أهداه إلى "نوال" بطلة الفيلم وكل سيدة تشبهها، ففي الفيلم تحاول نوال أن تتخلص من زوجها المتسلط وتبحث عن الحب، لكنه يقف أمام طريقها، شارك حسين فهمي وأحمد زكي البطولة، وكتب بشير الديك السيناريو والحوار.
خرج ولم يعد- 1984
كان خان يعلم أن هذا الفيلم لن يتم تداركه سريعا، وأنه عمل يحتاج أن "يختمر" حتى يستطعمه الجمهور، فالفيلم في السينما لم يحقق الإيرادات المتوقعة، ولكن بعدها بسنوات صارت قيمته أكبر، وأصبح هو فيلم العيد في التلفزيون والمناسبات الاجتماعية. الفيلم عن عطية الموظف الذي يعيش في المدينة، الذي يسافر لعمه في القرية ليحصل على إرثه، لكنه يبقى هناك.
يحمل الفيلم قدرا من الونس والدفء، عند مشاهدته تقدر فيه الكوميديا الناعمة السلسة، وتسعد بالتوليفة التي جمعت فريد شوقي ويحيى الفخراني وليلى علوي، وقام عاصم توفيق بتأليفه.
الحريف- 1984
فيلم من الشارع، بكل تفاصيل شخصياته وتركيباتهم، يأتي "الحريف" كفيلم حقيقي أصيل، يبدو ظهور عادل إمام فيه مختلفا، فلم يكن الممثل الكوميدي لكنه كان الممثل المحترف. اشترك في البطولة فردوس عبد الحميد وأحمد بدير، وكان عن فارس الذي ما زال متعلقا بحلم كرة القدم واللعب في الشارع، بينما يتعرض زواجه للانهيار ويقع في مشكلة الاتهام بجريمة قتل.
«عندما شاهد نيازى مصطفى الفيلم قال لخان منبهرًا: «أنا بقالى مخرج 45 سنة.. صنعت أفلاماً عن كل الموضوعات والشخصيات، بس عمرى ما خطر على بالي أعمل فيلم عن لاعبي الكرة الشراب.. إزاي عملتوا الفيلم ده ؟» الناقد السينمائي محمود عبد الشكور.
أحلام هند وكاميليا- 1988
"أحلام هند هي أحلام كاميليا" سيدتان اجتمعا على ظروف قاسية، من أرملة تحب شاب نصاب ومطلقة تعول أسرتها، ولكن تختلف الاثنتان في القوة والجلد والصمود، ودعم كاميليا لهند. اشترت جامعة UCI الأمريكية فيلم أحلام هند وكاميليا وكان يعرض في دروس تعلم السينما، ورأى خان أن قصة الفيلم الأمريكي "تيلما ولويز- 1991" مأخوذة من "هند وكاميليا".
أيام السادات- 2001
في أكثر من تصريح صحفي، قال خان "أنا كنت بحقق حلم أحمد"، الذي عانى لسنوات، بعد أن نواجه نقدا لاذعا، فقال عنه الناقد سمبر فريد "هذا سياريو رديْ جدا،.. ومشروع فيلم فاشل تماما على كل المستويات" حتى تمكن أحمد زكي من إنتاجه، وصار الفيلم من أهم علامات السينما المصرية.
فتاة المصنع- 2014
ظل خان يؤجل الفيلم لسنوات حتى يجد جهات تمول إنتاجه، وجاء فتاة المصنع بعد توقف 7 سنوات عن الإخراج، ليكون آخر فيلم يجمعه مع زوجته المؤلفة وسام سليمان، والذي أهداه لسعاد حسني وبكى يوم عرضه الأول يفتقدها. شارك بطولته ياسمين رئيس وهاني عادل وسلوى خطاب.
أما أمام الكاميرا، فأدى خان عددا من الأدوار الشرفية في أفلام، منها: ملك وكتابة، بيبو وبشير، واحدة بواحدة، العوامة رقم 70.
خان صوت النساء
في أفلام محمد خان كانت النساء تظهر بصورة مختلفة، فهي ليست السنيدة لدور الرجل البطل، على العكس، كانت معظم أفلام بطلاتها فتيات وسيدات يبحثن عن أنفسهن ويواجهن مجتمعا متسلطا، "المراة مظلومة، فالرجل هو صانع القانون، وهو اللي بينفذه، وبالرغم من ده هي تكافح عشان تاخد حقوق معينة، لكن في النهاية القاضي راجل، والمحامي راجل".
كان يبدو واعيا بقضايا نسوية ما زال الجدال حولها دائرا إلى الآن، ولكنه عبّر عنها بسلاسة ودون صراخ أو افتعال، وجسّدها بواقعيته المعهودة، فكانت صادقة ومؤثرة.
بالفيديو.. 8 مشاهد لا تنسى في رحلة محمد خان
محمد خان والجنسية المصرية
"يا تيجي لغاية عندي يا مش عايزها" بعد أن أبدى محمد خان رغبته في الحصول على الجنسية المصرية، وتم تجاهله بكل صلف في عهود سابقة، قرر ألا يسعى نحوها، فمن غيره أحق بها، من عرّف مصر وأهلها ووثق حياتهم بصدق، لم يكن لحصوله عليها أن يأتي بجديد، ولكنه التقدير الذي يستحقه.
طال انتظاره حتى قرر نسيان الأمر، وفي يوم 19 ديسمبر 2013 صدر قرار رئاسي في عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور بمنح الجنسية المصرية لمحمد حامد حسن خان.
"أنا بطبعي أحب الأكل جدا.. مين فينا بعد عودته لمنزله مرهقًا لايذهب إلى الثلاجة بالمطبخ ليروي عطشه بشوية مياه وبالمرة يعرف هياكل أيه"
وفاة محمد خان
في فيلمه الأخير "قبل زحمة الصيف"، تعرّض محمد خان لوعكة صحية بعد سقوطه وانكسار أحد أضلاعه، ويبدو أنه ظل متأثرا بها لفترة، لكن لم يتوقع أحد أن يودعنا في 26 يوليو عام 2016، بعد أن كنّا نطمح في المزيد. وكان خان قد تزوج من الفنانة ومصممة الحلي زينب خليفة وأنجبا الفنان حسن خان والمخرجة نادين خان، وبعد طلاقهما تزوج من الكاتبة وسام سليمان.
aXA6IDE4LjE5MC4yNTMuNTYg جزيرة ام اند امز