ليلة كانت تليق بحجم وقيمة المحتفى به ومكانته التاريخية الفريدة التي يتبوأها في وجدان الشعوب العربية،
أقامت مؤسسة الأهرام الصحفية العريقة بالأمس القريب احتفالية كبرى في القاهرة بمناسبة مرور مائة عام على مولد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بعنوان "زايد في قلوب المصريين"، وذلك تقديرا للمغفور له (طيب الله ثراه) مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، وتأكيدا على عمق العلاقات بين مصر ودولة الإمارات.
الاحتفالية التي كانت تحت رعاية الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي؛ وبحضور أهم رموز الفكر والفن والثقافة وكبار رجالات الدولة في مصر وكبار السياسيين والدبلوماسيين المصريين والإماراتيين والعرب جاءت لتواكب احتفالات دولة الإمارات بهذه المناسبة، حيث أعلن الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، أن عام 2018 في دولة الإمارات سيحمل شعار "عام زايد"، ليكون مناسبة وطنية تقام للاحتفاء بالشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.
للشيخ زايد فضل كبير فيما آلت إليه العلاقات المصرية الإماراتية التي أصبحت نموذجا يحتذى للعلاقات بين الدول العربية.. فما زالت تلك العلاقات تجني ثمار ما زرعه زايد الذي أرسى أسس علاقة استثنائية بين دولتين وبين شعبين عصيّة على الانكسار حتى في أصعب الظروف
ليلة كانت تليق بحجم وقيمة المحتفى به ومكانته التاريخية الفريدة التي يتبوأها في وجدان الشعوب العربية، كما تعكس تقدير الدولة المحتفية والمؤسسة المنظمة للاحتفالية لمواقف الشيخ زايد التي لا تنسى تجاه مصر والمصريين، تلك المواقف التي لا تزال باقية وحاضرة في ذاكرة الشعب المصري، وخالدة في وجدان المصريين، فلا أحد ينسى الوصية الخالدة التي تركها الشيخ زايد لأبنائه قبل وفاته، تلك الوصية التي سار على دربها الأبناء، والتي قال فيها "نهضة مصر نهضة للعرب كلهم.. وأوصيت أبنائي بأن يكونوا دائما إلى جانب مصر.. وهذه وصيتي، أكررها لهم أمامكم، بأن يكونوا دائمًا إلى جانب مصر، فهذا هو الطريق لتحقيق العزة للعرب كلهم.. إن مصر بالنسبة للعرب هي القلب، وإذا توقّف القلب فلن تُكتب للعرب الحياة"، هذه الوصية هي كلمة السر في حب الإماراتيين لمصر وفي حب المصريين للإمارات، وصية لم تكن مجرد كلمات ولكنها ترجمت في مواقف وسياسات لا يتسع مقال صغير لذكرها، وتحتاج إلى مجلد ضخم لتعدادها، وهو ما أدركته هذه الاحتفالية التي أصدرت كتابا وثائقيا ضخما عن الشيخ زايد ومواقفه تجاه مصر، شارك به نخبة من كبار المفكرين، والمؤرخين، والمثقفين العرب، ويعد وثيقة علمية وإعلامية كبيرة لما يحتوي من معلومات بعضها يتم توثيقه للمرة الأولى.
ومن بين مئات المواقف التي وثقها الكتاب تكفي فقط الإشارة إلى موقفين أثبتا أن دعم الشيخ زايد لمصر لم يكن مشروطا ولم يخضع لأي إملاءات.. بل كان دعما مطلقا انطلق من قناعة لدى حكيم العرب مفادها أن استقرار مصر وقوتها استقرار وقوة للوطن العربي. لذا انحاز الشيخ زايد لما تقرره مصر العروبة أيا كان قرارها.. ولما اختاره المصريون أيا كان خيارهم دون أدنى محاولة للتأثير على خيارات المصريين أو دفع مصر لتبني سياسات بعينها كما فعلت كثير من الدول المانحة، فعندما قررت مصر خوض غمار الحرب، كانت الإمارات في مقدمة الداعمين، وعندما قررت إنهاء حالة الحرب وخوض معركة السلام كانت الإمارات في طليعة المدافعين عن قرارها، فلا أحد ينسى مساهمة الشيخ زايد في حرب أكتوبر 1973، فمنذ اللحظة الأولى التي اندلع فيها القتال في سيناء والجولان، أعلن الشيخ زايد أن دولة الإمارات تقف بكل إمكاناتها مع مصر وسوريا في حرب الشرف، من أجل استعادة الأرض العربية المحتلة، مطلقا صيحته المدوية الشهيرة "إن الذين قدموا دماءهم في معركة الشرف قد تقدموا الصفوف كلها، وإن النفط العربي ليس بأغلى من الدم العربي، وإننا على استعداد للعودة إلى أكل التمر مرة أخرى، فليس هناك فارق زمني كبير بين رفاهية البترول وبين أن نعود إلى أكل التمر" ، هنا تجاهل هذا القائد الشجاع الحكيم كل تحذيرات الغرب وكان أول من قام بقطع كل إمدادات النفط عن الدول المساندة لإسرائيل، ولم يكتفِ بإنقاص الإنتاج 5% كما اقترح الوزراء العرب آنذاك، لكنه اختار التضامن الكامل، ودفع بقية الدول العربية لكي تسير على درب قراره.. وتبرع بـ100 مليون جنيه إسترليني لمساعدة مصر وسوريا في الحرب، وفي غضون ذلك سأله أحد الصحفيين في مؤتمر عقده في لندن في أكتوبر ١٩٧٣، "ألا تخاف على عرشك من الدول الكبرى؟" فأجاب: "أكثر شيء يخاف عليه الإنسان هو روحه، وأنا لا أخاف على حياتي، وسأضحي بكل شيء في سبيل القضية العربية، إنني رجل مؤمن، والمؤمن لا يخاف إلا الله”
مساندة الشيخ زايد لمصر في حربها لم تمنعه من مساعدتها في معركة السلام.. فلم يترك حكيم العرب مصر في عزلتها العربية بعد توقيعها اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وسعى لإعادتها لموقعها العربي، ورفض قرار مقاطعتها.. وبحكمته المعهودة وصف قرار المقاطعة بقوله "إننا لم نعزل مصر ولكننا عزلنا أنفسنا".. وخاطب العرب بقوله "لا يمكن أن يكون للأمة العربية وجود دون مصر، كما أن مصر لا يمكنها بأي حال أن تستغني عن الأمة العربية”، ولم تهدأ جهود الشيخ زايد إلا بعودة مصر إلى العرب وعودة العرب إلى مصر..
وكما ساندها في معركتي الحرب والسلام استمرت مساندة الشيخ زايد لمصر في معركة البناء والتنمية، وهو ما تجلى في الكثير من المشروعات الكبرى التي تحمل اسم الشيخ زايد في كل أنحاء مصر.
للشيخ زايد فضل كبير فيما آلت إليه العلاقات المصرية الإماراتية التي أصبحت نموذجا يحتذى للعلاقات بين الدول العربية.. فما زالت تلك العلاقات تجني ثمار ما زرعه زايد الذي أرسى أسس علاقة استثنائية بين دولتين وبين شعبين عصيّة على الانكسار حتى في أصعب الظروف..علاقة قادرة على عبور أكبر التحديات وتجاوز أخطرها..تلك الاستثنائية التي مكنت هذه العلاقة من تجاوز اختبارات صعبة خلال عام أصعب، بدأ في يوليو 2012 وانتهى في يوليو 2013، اختبارات كان من الممكن أن تعصف بما بين البلدين من ود، نظرا لما أراده التنظيم الذي حكم مصر خلال ذلك العام من تغيير وجهة مصر وربما حدودها، واستبدال انتمائها لعروبتها وقضايا أمتها بولاءات أخرى، انطلاقا من أوهام "أستاذية العالم" وما استتبع ذلك من خروج قوى الشر وخلاياها النائمة في الإمارات ودول أخرى من سباتها وكمونها تنفيذا لأوامر مرشدهم في مصر، ولكن نظرا لخصوصية واستثنائية ما يجمع بين دولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية، ونظرا لما بدا أنه وحدة مصير بين البلدين، ونظرا لما أورثه زايد لأبنائه من حب لمصر وما أوصاهم عليه من الوقوف بجوارها في السراء والضراء.. فقد خرجت العلاقات من هذا الاختبار المفصلي والتحدي الحقيقي أقوى وأشمل وأعمق مما كانت عليه قبلها بفضل حكمة أبناء زايد.
رحل الشيخ زايد بجسده لكن ستظل روحه خالدة للأبد.. وسيظل ما زرعه ينمو يوما بعد يوم..وسيبقى أثره وتأثيره حاضرا رغم الغياب.. وسيظل زايد في قلوب المصريين لأن مصر كانت دائما في قلب زايد وأبنائه من بعده.
رحم الله الشيخ زايد وأدام على شعبه الرفعة والتقدم والرقي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة