يشهد سوق الصرف الأجنبى حالة من التوتر والارتباك والفوضى غير المسبوقة. وهو ما ادى إلى ازدياد المضاربة
يشهد سوق الصرف الأجنبى حالة من التوتر والارتباك والفوضى غير المسبوقة. وهو ما ادى إلى ازدياد المضاربة وتعدد اسعار صرف الجنيه المصرى امام العملات الاجنبية وتنامى السوق السوداء
واتساع الهامش بشدة بين السعر الرسمى والسعر فى السوق السوداء،بل والأخطر من كل ما سبق هو ازدياد الطلب على العملة للمضاربة وليس لأغراض التعامل التجارى العادي، وبالتالى توظيف جانب كبير من تدفقات العملات الأجنبية (المنخفضة أصلا) فى عمليات المضاربة، خاصة مع كثرة التصريحات الرسمية والإعلامية حول ضرورة وقرب تعويم العملة دون اتخاذ أى اجراء فعلي، جنبا الى جنب مع بعض القرارات الاقتصادية التى صدرت أخيرا، المتعلقة بالنقد الأجنبى والتعديل المستمر عليها فى فترات زمنية قصيرة وهو ما يمثل التربة الملائمة لنمو الطلب لأغراض المضاربة.
ونظرا لأن هذه السوق غير منظمة على الإطلاق فقد أدت الى انخفاضات متتالية فى أسعار صرف الجنيه، بصورة غير مبررة على الإطلاق، إلا فى ضوء مغالاة تجار العملة لتحقيق أقصى الأرباح الممكنة الأمر الذى جعل أسعار الصرف لا تعكس حقيقتها ومغالى فيها كثيرا. وبعبارة اخرى فمع تسليمنا الكامل بالتراجع الحادث فى مصادر البلاد من العملات الأجنبية، خاصة مع تحول الفائض فى ميزان المدفوعات الذى تحقق عام 2014/2015 بنحو 3.7 مليار دولار الى عجز بلغ نحو 2.8 مليار خلال العام المالى 2015/2016 كنتيجة أساسية للتراجع الشديد فى متحصلات السياحة (من 7.4 مليار دولار الى 3.7 مليار خلال نفس الفترة وكذلك تحويلات المصريين بالخارج (من 19.2 مليار الى 16.8 مليار) إلا ان ذلك لا يبرر بأى حال من الأحوال ما يحدث بالسوق.وخطورة هذا الأمر تكمن فى أن نمو المعاملات فى السوق السوداء، يساعد على تهريب الأموال وتناقص متحصلات البلاد من العملات الأجنبية. حيث يدفع هذا الوضع الى تزوير فواتير الصادرات والواردات فيبالغ المستوردون فى قيمة وارداتهم ويثبت المصدرون قيم الصادرات بأقل من حقيقتها. كما انه يؤدى إلى لجوء مدخرات المصريين العاملين بالخارج الى الأسواق السوداء او الاحتفاظ بمدخراتهم فى الأسواق الخارجية. وبالتالى حجب معظم مصادر النقد الأجنبى عن التعامل فى السوق الشرعية وهى الجهاز المصرفي، ومما يسهم فى ذلك عدم قدرة الجهاز المصرفى على فرض سطوته والسيطرة على هذه السوق رغم ما لديه من إمكانات وقدرات تؤهله للاضطلاع بهذا الدور. نتيجة للمشاكل الكامنة فى الجهاز المصرفى ذاته. وذلك نظرا لتعقيدات المعاملات البنكية او لسيادة انطباع لدى البعض بسوء المعاملة وارتفاع تكلفتها وهكذا فمازالت البنوك غير قادرة على خدمة هؤلاء ولم تقم بأى مبادرة لاجتذاب هذه الأموال،
ومما يزيد من صعوبة المشكلة طبيعة العادات المصرفية السائدة بالبلاد والتى مازالت بعيدة تماما عن مفهوم التعامل المصرفى ومازالت تفضل التعاملات النقدية فى كل السلوكيات. وهناك العديد من الأمثلة الدالة على ذلك منها احتفاظ بعض المصدرين ورجال السياحة بنتيجة أعمالهم خارج البلاد فى حسابات خاصة.
وينطبق نفس القول على إدارة البنك المركزى لسعر الصرف، إذ نلحظ أنه غالبا ما يتدخل متأخرا كثيرا عن التوقيت السليم. وبالتالى يكون لتدخله أثر عكسى أى يؤدى الى تفاقم الأزمة وليس العكس. فالعبرة ليست فقط بالقرار السليم ولكن الأهم هو التوقيت الصحيح. خاصة فى سوق تلعب فيه العوامل النفسية دورا كبيرا مثل سوق الصرف الأجنبي. فالتقلبات الفجائية فى سعر الصرف هى الخطر الحقيقى الذى يعمل على تفاقم المشكلة نظرا لما يخلقه من طلب غير طبيعى مما يقلل من العرض المتاح ويؤدى الى المزيد من التردد من جانب العرض ووقوفه وقفة المترقب لما سيؤول اليه الحال فيما بعد.
مما سبق يتضح لنا أن الجنيه المصرى يعانى من أزمة حقيقية بكل معانى الكلمة. فالتعريف العلمى لازمة العملة ينصرف الى الحالة التى يحدث فيها هجوم شديد على عملة بلد ما وينتج عنه انخفاض شديد فى قيمتها ، يقدره البعض بنحو 25% سنويا على الأقل مع زيادة هذا الانخفاض عن السنة السابقة بمعدل 10% سنويا، او تدهور فى الاحتياطات الدولية نتيجة لإجبار السلطات على الدفاع عنها عن طريق إنفاق كم هائل من الاحتياطات أو اللجوء إلى رفع أسعار الفائدة بشكل حاد وغالبا ما تحدث الازمة بسبب تراكم الاختلالات الاقتصادية بالبلاد ، او بسبب خلل فى التمويل الخارجى يؤدى الى كشف جوانب الضعف الاقتصادية والمالية فى الاقتصاد القومي.
وهكذا فإن التعامل مع أزمة سعر الصرف يحتاج إلى معاملة خاصة تنسجم مع طبيعته والعوامل المؤثرة فيه، وذلك فى ضوء اتساع دائرة الآثار التى تنتج عن تغييره. فمن المعروف ان اهمية سعر الصرف تكمن فى قدرته على تسهيل تحقيق الاهداف والغايات الاقتصادية الاساسية. فسعر الصرف يؤثر على كل قطاعات الاقتصاد القومى ويلعب دورا مهما فى تحديد السياسة النقدية والتعامل مع العالم الخارجي. هذا فضلا عن ان سعر الصرف -كأحد أنواع الأثمان السائدة -يؤثر على نظام الأثمان بكامله. وهو ما يتطلب الدراسة المتأنية والمتعمقة لطبيعته والعوامل المؤثرة فيه.
وإذا كان النظام النقدى السائد قد الغى كل القيود واعطى الحرية للأفراد فى تملك النقد الأجنبى او التعامل فيه، حيث أصبح التعامل حراً فى جميع البنوك والصيارفة، الأمر الذى يزيد من إمكانية الوصول الى أسعار حقيقية لأسعار الصرف تعكس قوى السوق بالأساس، إلا أنه لم يستطع حتى الآن حل المشكلة الأساسية الخاصة بالاستقرار النقدى طويل الأمد.
لذلك فإن الأمر يتطلب عدة إجراءات مهمة وضرورية، ومجموعة متكاملة من السياسات التى تنسجم وتتناغم مع بعضها البعض. ولا شك ان التصدى لهذه المشكلة يتطلب العمل على إيجاد الاليات المناسبة لتحجيم التعامل فى السوق غير الشرعية. وتوفير السيولة بالعملات الاجنبية بغرض اعادة بناء وتعزيز الثقة فى النظام. جنبا الى جنب مع توفير القنوات التى تمكن البنك المركزى من ضبط ايقاع السوق. كل هذه الأمور تتطلب بالضرورة زيادة الدور الذى يلعبه البنك المركزى لكى يدير تحركات أسعار الصرف وفقا للأهداف الموضوعة للسياسة الاقتصادية للدولة. وعليه ان يدير تحركات سعر الصرف بما يضمن تنظيم السوق والسيطرة عليه مما يمكن سعر الصرف من أداء الوظائف المنوط بها، وهذا ما لم يحدث فى معظم الأزمات التى جرت أخيرا،
وإذا كنا قد ركزنا فى المقترحات السابقة على الخطوات المطلوبة فى الآجل القصير فإن كل ذلك يتطلب بالضرورة السير جنبا إلى جنب لعلاج الاختلالات الهيكلية فى الاقتصاد المصرى والتى تعد وبحق جوهر المشكلة الراهنة.
نقلا عن / الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة